السبت، 14 غشت 2010

في مملكة الدارجة

في مملكة الدارجة


أنا واحد من رعايا صاحبة الجلالة الدارجة. رضعتها في صدر أمي, سمعتها في الأذن أذانا بعد الميلاد مباشرة, والتقطت منها مسام الحياة, فالتقطت مني مسام كل كلمة أقولها منذ أن جئت وإلى أن أذهب ذات يوم.
شفتها فالملحون كلمة صغيرة مكمولة, شفتها فغوات الزنقة. فلعب الكورة. كلت بيها كنبغيك أول مرة, ورخيت ليها سدول السمع من النهار الأول. بيها غنيت, وبيها بكيت, وبيها شكيت وحكيت. وليها شحال من مرة ترنمت بالحيدوس, والعيوط, وسيد الفنون الملحون, وشحال من هيت.
بدأت الكتابة بالدارجة منذ الصغر, لكن أحدا ماقال لي إنه من العيب أن أضيع الفصاحة التي منحانيها الله في اللغة العربية الفصحى في الكتابة بلهجة لاتستطيع في يوم من الأيام أن تصبح لغة كاملة. صدقت أستاذي, ودفنت دارجتي. كنت أتذكرها فقط حين إنسانيتي, حين أريد الغناء بلغتي. في قمة مشاعري الإنسانية لم أكن أستطيع الغناء بالعربية الفصحى أو بأي لغة أخرى شبيهة. كنت أغني بالدارجة وأجد فيها راحتي, وكنت أتساءل دائما "لماذا ينبغي أن أكتب بلغة غير لغتي لكي أبدو للآخرين مهما؟" ولم أكن أعثر على الجواب.
عيط ليا عشيري وسولني وقال "مال كلام المغاربة؟ مال زين القول ماقادر يكول؟" جاوبت وقلت لو "ناسنا ماقادرين يفهمو أنه هو الحل ليهم, بيه يدويو, يتفاهمو, يوصلو لبعضياتهم الهضرة. ماشي شي يشرق شي يغرب". قال ليا عشيري "وشنو الحل؟", قلت ليه "شي نهار تضوي فاللسان المغربي شعالة, تقول ليه (ماندوي غير بالمغربية)", قال ليا "وقتاش يجي داك النهار؟" قلت لو "نهار المغربي يفهم شنو هو المغرب, مايبقاش عايش بعينيه معلقين فالشرق تيكول (ياربي شي نهار يشوفو فيا)
في المكتوب العالم اليوم في المغرب, إذا أردت أن ينظر إليك الناس بجدية عليك أن تحدق فيهم مليا بتجهم, أن تزيل الضحك والابتسام عن وجهك وأن تشرع في الرطن بلغة قديمة جدا. لايهم أن يفهمك الناس أو أن لايفهموك. الأهم هو أن تبدو جادا وجديا, وأن يعرف من تتحدث إليهم أنك تتقن لغة ليست في متناول العموم. هل هذه هي كلمة السر لفهم نقاش اللغة في بلدنا الآن؟ أن لايفهمك إلا عدد قليل من الناس, أن تظل المعلومة والفكر والأدب واكل ماسيرتقي بالناس في ملك أشخاص محددين. أن لايفهم الشعب مما يقال له إلا النزر اليسير؟
كلسات حدايا مرا كبيرة, شافتني كنقرا الجورنان. سولاتني "شنو كاتبين آولدي فالكازيطة", كلت ليها " داويين على السياسة آميمتي, وعلى الفلوس وعلى الكورة وعلى شوية ديال السوليما والغنا", قال ليا "كول ليا شوية من داكشي اللي مكتوب", بديت نقرا ليها بالفصحى, حلات فمها, بدات كتفوه, شوية وهي تغلبها الضحكة. كالت ليا "بلا ماتاخدها مني قلة الصواب, والله مافهمت كلمة من هاد الشي اللي كلتي آولدي". سولت راسي ديك الساعة "لمن كتكتبو حنايا ؟ ومعا من حنا داويين؟"
هل يحق لنا اليوم أن نطرح السؤال عن حق شعبنا في الحديث بلغة يفهمها ويتحدث بها في كل حياته؟ من يتوهمون أن هذا السؤال هو اليوم ترف لاحاجة لنا به, يهربون فعلا من النقاش. يفضلون أن تبقى المسائل على حالها, وأن لايأتي من يخدش لهم توافقهم الزائف حول لغة يفرضون علينا الحديث بها وإن كان أغلبنا لايفهمها. "هي لغة القرآن" يقولون. نعم, ولكننا نريد فقط أن نتحدث مع بعضنا بلغة نفهمها جميعا تتيح لنا التواصل الحقيقي, ولانريد الآن الصلاة. فما الذي زج بالقرآن في هذا المقام؟
كال ليا صاحبي "دابا نتوما باغيين تردونا للور. الناس اللي باغيين الدارجة تولي هي اللغة الأولى فالمغرب خدامين مع البراني, بغاو يطيحو لينا الهوية ديالنا". كلت ليه "ياك هويتي وهويتك الأولى هي لغتنا؟" كال ليا "إيه", كلت ليه "نهار هضرو معاك والديك أول مرة هضرو معاك بالدارجة ولا بالفصحى؟" شاف فيا وبقا ساكت, سولتو "اللغة الأم ديال المغربي واش هي اللي كتولد معاه ولا الأخرى اللي كيبدا يعرفها حتى للتحضيري؟" بقا ساكت, زدت سولتو "شنو لغتك الأم نتا؟ شكونا هي مك فاللغات؟" بقا تيشوف فيا وتيفكر, كلت ليه "صعيبة بزاف ماتكونش عارف الواليدة ديالك ؟ خايبة بزاف ماتعرفش لغتك شنو هي وتبقا تالف بحال هاكا". شاف فيا مزيان وعاود كال ليا "واخا هاكاك نتوما باغيين فينا الخدمة, ماعرفتش كيفاش, ولكن باغيين فينا الخدمة".
كان مفروضا لهذه الكلمة أن تلقى في ندوة "لغات, اللغات" السبت الفارط, لكن ظروفا شخصية قاهرة حالت دون حضوري, ومع الهجمة الشرسة التي تعرضت لها الندوة بشكل مشوه بدا لي مهما أن أنشرها تعبيرا عن تضامني مع كل من تم تكفيرهم فقط لأنهم شاركوا ندوة حول الإشكال اللغوي في المغرب. هذه الكلمة هي فقط لكي نقول للخائفين إن الدارجة وحدها ستكون مسارنا ومصيرنا المغربي بكل تأكيد. "عقلو فين كلناها ليكم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق