الثلاثاء، 6 مارس 2012

الحاج إدموند و"تمغربيت"

"شكون اللي قال" أن الثقافة ليست منتوجا تلفزيونيا قابلا للتسويق، وقابلا لشد انتباه الناس، وقادرا على أن يمنح الهنيهات الراقية والمتميزة فعلا لجمهور التلفزيون؟
قائل هذا الأمر عليه أن يشاهد الحصة التلفزيوينة الجميلة جدا التي قدمتها القناة الثانية يوم الأحد الماضي عن الراحل إدموند عمران المالح ضمن البرنامج الوثائقي الجديد "فيلم حياة" الذي تعده وتقدمه الزميلة سمية الدغوغي.
حلقة قاتلة في إبداعيتها وبساطتها وعمقها، هي التي اختارت إعطاء أصدقاء الراحل الكبير الكلمة لكي يتحدثوا عن الحاج عمران بكل ثقله، والذين استطاعوا في لحظات معينة من الحكي أن يحيطوا ببعض من حياة الرجل، والذين استسلموا في كثير لحظات البرنامج لوطأة التذكر، وللعلاقات الإنسانية القريبة جدا التي جمعتهم به، والتي أتتهم دفعة واحدة آثناء الحديث عنه
حضرت المدن التي أحبها الرجل، حضرت الصويرة بكل رمزيتها، حضرت أصيلة التي كانت ملاذه الثاني من الحياة، حضرت اللوحات التشكيلية التي كان يصنع منها وفيها وبها عالمه الخاص المحيط به، حضرت الكتب العديدة والمؤلفات اللاتنتهي، حضرت المقولات القصيرة لكن البليغة التي كان إدموند يستطيع وحده حكايتها ونسجها، ثم حضر ذلك التصور الجميل للصداقة التي يقدسها الحاج إدموند حد العتب على المقربين منه والأصدقاء الحقيقيين وإن أخلوا بشي قليل من قواعدها وطقوسها.
والحلقة تسير نحو مرفئها الختامي كان طلب واحد ووحيد يداعب مني الوجدان هو أن لاتنتهي أبدا تلك الاستعادة، أن لاينتهي إدموند، أن يعود إلينا يوما.
ومع الإدراك الكامل بأن الأمر صعب بل مستحيل لأن الحياة طافت طوافها الأخير، وإدموند اليوم تحت التراب إلا أن التلفزيون الحقيقي يصلح لهذا الأمر بالتحديد: أن يعيد إلينا كبارنا، وأن يعطينا الإحساس أنهم لم يعبروا من هذا المكان عبثا، بل كانت لديهم القدرة على بصم الحياة بميسمهم، وتمكنوا من جعل حضورهم معنا قسريا وإن غابوا.
تلفزيوننا للأسف الشديد "لايرتكب هذه الزلات الجميلة" إلا نادرا. عوضها يفضل أن يقترف الزلات الحقيقية والمجرمة، أن يعطينا الإحساس أن بلدنا عاقر، وأنه لم يلد أمثال إدموند، ولم يكن في يوم من الأيام قادرا على أن يمنحنا فخرا كثيرا بالانتماء إلى هذا البلد مثلما حدث لكل من شاهد حلقة الإثنين الفارط عن الرجل الرائع الذي كانه الحاج
وليست هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها هذا الكلام, لكنني لاأمل من ترديده أبدا. هذا البلد ليس بلد الداودية وحجيب فقط. هذا البلد بلد الكثير من الكبار, والتلفزيون الذي يعتقد أن عليه دور تجهيل وتضبيع حقيقي يمارسه على الناس, وبالتحديد على الأجيال الجديدة, عليه أن يعلم أن جريمته لن تمر هكذا.
نعم, يمكن لمسؤولي التلفزيون الحاليين أن يبقوا في مناصبهم دون أدنى إشكال, لكن التاريخ لن يرحم تكاسلهم وتهاونهم وعملهم على تصوير البلد باعتباره خلاء كبيرا لم يلد في يوم من الأيام إلى الدرجة الرابعة من الشيخات. وعندما نشاهد هاته الأيام عبر "ميدي آن تي في" مسلسل "حريم السلطان", أو "القرن الرائع" حسب التسمية الأصلية للمسلسل, ونتابع من خلاله حكاية السلطان العثماني سليمان القانوني, ونتفاعل مع شخصياته, نتساءل عند نهاية كل حلقة إن كان سلاطين المغرب القدامى لا يصلحون حقا لعشرات المسلسلات المتميزة, وإن كان القدر دوما منا في هذا البلد الحزين ببعض مسؤوليه _ لا سامحهم الله _ هو أن نتفرج عليهم كل مرة وهم يعضون أصابع الندم على سيتكوم فاشل أنجزوه أو على سلسلة فكاهية "كتقتل بالفقصة" تورطوا فيها وتقاسموا مع "اللصوص" الآخرين الذين منحوهم ثمن إنتاجها "الحصيصة" ككل.
حقيقة لا أعرف كيف انتقلنا من الحاج إدموند الرائع إلى السيتكومات الفاشلة, لكنه الخيط الرابط المسمى التلفزيون بين المسألتين, والذي أهدانا لحسن الحظ هاته المرة شيئا جيدا وجميلا وقابلا لمنحنا بعض الأمل أن الأشياء ليست بالسوداوية التي يصورها لنا مسؤولو التلفزيون أنفسهم, حين ينهارون أمام مد الرداءة المسيطر ويقررون منافسة بعضهم البعض في الشعبي الساقط (مصاب كون غير كانو تيديرو لينا الشعبي على حقو وطريقو) لأن نسب المشاهدة الكاذبة قالت لهم إن هذه هي الطريق الوحيدة الموصلة إلى المشاهد المغربي حقا.
أخيرا وقبل أن تنتهي حلقة الحاج عمران يوم الأحد الفارط, استوقفت الكاميرا أنظار الجميع, وهي تتحرك في مقبرة البحارة في الصويرة, وتعيد صور ذلك اليوم الحزين الذي التقى فيه الرجل بتراب موكادور إلى أبد الآبدين.
وجد أندري أزولاي كلمة قاسية حقا في جمالها لوصف من حضروا الجنازة حين قال "لم يحضر أي منا بموجب الواجب, كلنا حضرنا بموجب الحب", قبل أن يقول متدخل آخر "كان إدموند يريد فقط أن يذكره التاريخ باعتباره مفكرا مغربيا لا أقل ولا أكثر", فيما كانت الكتابة على قبر االمالح بأربع لغات هي العبرية والعربية والفرنسية والأمازيغية تقول إن درس الانتماء إلى هاته الأرض هو درس أبلغ من أن نستوعبه مرة واحدة ونكتفي.
درس "تمغربيت" الحقيقية درس يتكرر يوميا إلى آخر الأيام
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
يقولون اليوم إن بوتين من أجل أن ينسي العالم في الطريقة التي عاد بها إلى رئاسة روسيا سيسمح بتدخل إنساني في سوريا لوقف القتل الذي يمارسه بشار هناك. عندما نسمع هذا الكلام نعرف أن الدم في أوطاننا رخيص فعلا, وأننا لانساوي عند العالم الآخر شيئا كبيرا يستحق اهتماما فعليا إلا إذا كنا مليئين نفطا أو ذهبا أو شيئا قابلا لإثارة انتباههم
في حال العكس, أي عدم التوفر على شيء, علينا أن نتأكد ألا أحد سيهتم.
لا أحد على الإطلاق