السبت، 28 غشت 2010

في الواجهة _ عمود السبت 28 غشت 2010

مكناس العطشى
قدرنا في هذا البلد أن نخرج في المسيرات الاحتجاجية إما لندب موتانا تحت الصوامع التي تنهار دون أدنى حماية مثلما وقع في باب البرادعيين, أو للصراخ بالصوت العالي "راه قتلنا العطش آعباد الله". بهذه النبرة الحزينة حادثني الأهل من مكناس, متسائلين عن محلهم من الإعراب في خارطة هذا الوطن هم الذين يعانون منذ قرابة الأسبوعين من عطش غريب في مدينة عرفت أصلا بمدينة الما الحلو, وبصهاريجها من أشهرها صهريج السواني الذي اخترعه مولاي اسماعيل في زمن سحيق لمواجهة أزمة الماء في المدينة ونواحيها إلى بقية العيون والصهاريج التي تحيط بالمدينة من كل جانب.
"ولينا كنشربو غير سيدي علي وسيدي حرازم وعين سلطان وعين سايس وعين إيفران. يقول أحدهم ضاحكا قبل أن يضيف, عندنا إحساس أن الدولة كتجرب فينا شي مخطط باش المغاربة كلهم يوليو يشربو الما المعدني. مشكلة وحدة اللي كاينة: خصنا الفلوس ديال الما المعدني وديك الساعة ماكاين حتى شي مشكل".
الأمر يشبه مقلبا من مقالب الكاميرا الخفية الحقيقة, وليس تلك "الباسلة" التي يقدمها لنا تلفزيوننا في رمضان من كل عام. مدينة بأسرها تضطر لكي تشتري الماء المعدني إذا ماأرادت إطفاء عطشها, ووكالة لتدبير أمر الماء تكتفي ببلاغ اعتذاري تتندر فيه من الساكنة وتوصي _ خصوصا بالنسبة للكبار والرضع _ بالحرص على اقتناء المياه المعدنية تفاديا لأمراض وأوبئة قد يتسبب فيها شرب مياه غير صالحة لهذا الغرض.
ونحن يافعون كانت تعتلي ساحة الهديم (أشهر ساحات مكناس للتذكير) لوحة تذكارية كنا نمر أمامها عشرات المرات يوميا. كتب فيها بعد الآية القرأنية "ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله...الأية", مايفيد أن هذه اللوحة وضعت في هذا المكان بالتحديد للتذكير بالشهداء الذين سقطوا في سنة 1937 في الحرب التي عرفت في الوجدان الشعبي المكناسي باسم "الكيرة ديال الما الحلو" في بوفكران والتي انتفضت فيها ساكنة مكناس في شتنبر من تلك السنة البعيدة الآن بعد أن قام المستعمر الفرنسي بتحويل المياه العذبة التي تأتي من المدينة الصغيرة بوفكران بين مكناس والحاجب إلى ضيعات المستعمرين بعد قرار وزاري صدر في نونبر من 1936 يأمر بالقيام بهذا التحويل.
في تلك السنوات القصية قام المكناسيون بتقديم عرائض الاحتجاج إلى السلطات الاستعمارية, واحتجوا شعبيا, وخرجوا في مظاهرات احتجاجية تقول بأن الماء هو عصب الحياة وأن حرمانهم منه يعني قتلهم, وأنهم لن يموتوا مجانا مهما كان الثمن. المستعمر لم يسمع ذلك الكلام, ليأتي يوم فاتح وثاني شتنبر (قبل فاتح القذافي بكثير) الذي سجل سقوط عدد كبير ممن يعرفون في الذاكرة المكناسية بوصف "شهداء الما الحلو", القادم من بوفكران وهو الماء الذي حبسه السلطان مولاي إسماعيل على مدينة مكناس.
سبعون سنة ويزيد بعد هذا الفصل البطولي يعيش الأهل هذه الأيام في الإسماعيلية أشياء لن نقول إنها شبيهة بأيام الاستعمار لأن الكلمة ستكون قاسية, لكنها تذكرهم أن الماء سيظل عنصر تجميع لهم ولا حتجاجاتهم باستمرار. ما الذي يقع بالتحديد في مكناس هذه الأيام بخصوص قضية الماء هاته؟
الذي يقع هو نتاج التسيير العشوائي للمدن الكبرى المغربية التي تسير "فيد الله", قبل أن يكتشف من يرث تسييرها من المسؤولين فداحة مافعله السابقون وتركوه فخا للاحقين. مدينة في منطقة تعرف تساقطات مطرية هامة لاتتوفر على مركز لمعالجة الماء قادر على الاستجابة لمتطلبات مايقارب المليون من سكانها. الأمر يشبه مزحة سخيفة, لكنه الحقيقة العارية في مكناس اليوم التي تجبر الناس هناك على العودة إلى الأيام الخوالي قبل التزود بالماء الشروب, وحمل القناني و"البوديزات" وملئها بماتيسر من المياه لمواجهة الحرارة ورمضان ومابينهما.
سنوات قليلة قبل هذا الأمر كان المكناسيون يتندرون من أنفسهم ومن مدينتهم التي لاتتوفر على أسطول للنقل الحضري بعد الفضيحة التي عرفتها وكالة النقل بمدينتهم والتي تمت لملمتها بسرعة وأدى الناس هناك ثمنها من خلال اضطرارهم لاستعمال "الكيران" في التنقل اليومي داخل مدينتهم. واليوم يعود المشهد البدائي ذاته إلى مكناس وناسها يحملون "البيدوايت والقراعي" ويقصدون الآبار والعيون لكي يملؤوا مايروي عطشهم في صيف الناس هذا. لذلك لامفر من طرح السؤال: من يريد لهذه المدينة هذا الشكل البدائي المخجل؟ وأي مسؤولية لجحافل المتتالين على تسييرها ممن لم ينجحوا إلا في زيادة أزماتها؟ وأي دور للمجالس البلدية التي تعاقبت عليها في تعميق هذه الأزمة وإيصالها إلى هذا الحد المزري الذي بلغته اليوم؟
في مكناس اليوم _ كما وقع بالأمس حين انهارت صومعة باب البرادعيين _ لاوقت لطرح كل هذه الأسئلة التي يمنحها لنا ترف التفكير عن بعد في المشكلة. الناس منشغلون _ تماما مثلما انشغلوا بعد فاجعة الصومعة بدفن موتاهم والبحث عن بعض عزاء فيهم _ بتدبر أمر قطيرات ماء تقيهم أمر العطش, وينتظرون أن ترتفع هذه الغمة ذات يوم, وأن يستفيقوا صباحا فيجدوا بعض الماء في صنابيرهم, في مغرب القرن الواحد والعشرين...للتذكير فقط.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
الموت لذي تعانيه الحياة السياسية المغربية أمر نادر الحدوث في دول أخرى غير بلادنا. نحن فقط لدينا تحقق مفهوم العطلة السياسية دون أن يليها دخول سياسي حقيقي، حيث يتفرغ كل سياسيينا لشؤونهم الخاصة وينسون وهما إسمه تأطير المواطنين يقال في الدستور إنهم مكلفون به.
من يريد فهم أزمة السياسة في المغرب عليه أن يزور سياسيينا في فصل الصيف لكي يفهم جيدا مكمن الخلل. إنهم ينتظرون "شي حاجة، شنو هي؟" الله أعلم، لكنهم ينتظرون...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق