الأحد، 15 غشت 2010

ذكرى

شيخ المشايخ الحسين التولالي
كم مرت اليوم على الذكرى الحزينة؟ سبع سنوات أو يزيد، بل قل عشرا وأضف إليها من الأرقام مايبديها موغلة في القدم والعتاقة إلى حد الرعب الكبير. من يتذكر اليوم رجلا كان يسمى قيد حياته الحسين التولالي غير شلة الأهل الصغيرة والأقارب وبعض الأصدقاء، وحفاظ الملحون وقليلا من عشاقه المنقرضين؟
من يتذكر رنة تافيلالت هاته التي نزلت إلى مكناس لكي تطرب أذنها بالدارج المغربي إذ يضحي شعرا، وترافقه النغمات فيتحول إلى فن يسمى الملحون لايتذوق أريج عطره إلا الراسخون في الانتماء لهذا المكان المسمى مغربا،ولهذا الزمان المكنى الآن.
القليلون القليلون، وأسرة الحسين التولالي - شيخ مشايخ الملحون - تعيش اليوم ضنك الحال ولاتطلب شيئا سوى أن لايكون لمرور الذكرى كل سنة لامعناها الأبدي إلى أن لاتعود قاددرة على تذكر شيئ على الإطلاق، وتتحول إلى رقم عادي في السنة لايؤرخ لرحيل آخر أهرام فن الملحون في بلدانا في غياب أي اهتمام أو مايشبه دليل القدرة على التذكر وعلى الوفاء وعلى عدم النكران
كانت للحسين التولالي الذي ولد سنة ١٩٢٤ صدفة عجيبة مع فن الملحون الذي التقاه - هو الذي بدأ حياته يبيع النعناع في ضواحي مكناس وبالضبط في تولال التي أخذ عنها كنيته - على ناصية مقهى شهير بالعاصمة الإسماعيلية لم يكن يرتاده التولالي لأنه لايملك ثمن كأس الشاي فيه، ولكن يجلس على بابه للإنصات إلى فن سرى في عروقه بشكل غريب، واستهواه إلى درجة إدمان تلك الجلسة من أجل الحفظ ومن أجل ضبط الإيقاع ومن أجل المزيد من الاستممتاع بذلك الفن الجميل
وكان لانتقال التولالي إلى محل لبيع الحلوي يملكه شيخ الملحون الكبير العربي الحلوي الأثر الثاني في ضبط الذائقة الفنية للشيخ الذي أضحى مأسورا تماما بفن الملحون يردد "الميزان فالذات خلوق".
هذا الفن الذي كان المقابل الذي اختاره الصنايعية والكادحون للفن الآخر المقتصر على الأغنياء أي فن الطرب الأندلسي، والذي يعتبر تحويرا لما أدخله الموريسكيون معهم من الأندلس، وإن كانت النشأة ثابتة على تافيلالت التي جعلت الأندلسي يتحول إلى ملحون (من لحن الكلام أي الخطأ فيه) قبل أن ينزل إلى الحواضر الكبري وفي مقدمتها مكناس وفاس ومراكش وسلا
ظل التولالي رغم تقدمه في هذا الفن ووصوله إلى درجة شيخ الملحون الأول في القصر الملكي متواضعا زاهدا في الدنيا، وكنا - ونحن صغار في درب أجانا بالصباغين - نطل على بيته ونرى رجلا يرتدي سترة رياضية زرقاء ويحرص يوميا على ممارسة الرياضة، وتشير إليه الأصابع الأجنبية وتقول "هاهو"، دون أن ندرك نحن معنى مجاورتنا لهذه المعلمة الكبرى، فقد كان مجرد جار عادي لم يعطنا في يوم الإحساس بأنه المغني الذي بدأنا فيما بعد نرى صوره في التلفزيون، ونسمع عنه في الإذاعة.
بقي التولالي حبيس ذلك الدرب إلى أن توفي في يوم من شهر دجنبر من سنة ١٩٩٨ وكانت له قبيل وفاته - هو الذي طلب منه الحسن الثاني أن يطلب شيئا فطلب رضا الملك فقط - حكايات مع لصوص الذاكرة وسراق الأشياء الجميلة الذين حرصوا على التباهي بتنظيم التكريمات الكاذبة له لجمع الأموال التي لم تعرف يوما الطريق إلى منزل الحاج التولالي، بل وصلت الرداءة مستواها الأعلى يوم سرق من داخل المستشفى الذي رقد فيه التولالي رقدة مرضه الأخير ظرف مالي جاء من الأميرة للا أمينة لمساعدة الشيخ على تجاوز محنته الصحية القاتلة.
أما بعد أن مات الشيخ فقد "نبت" الكثيرون من العدم لكي يقولوا إنهم كانوا تلامذته وهو منهم براء، ويقولوا بأنه ترك لهم الملحون وصية وهذا الكذب وواضح، ويقولوا بأنهم لن ينسوا أبدا ذكرى الشيخ وسيظلون أوفياء لها ماداموا أحياء...
أما اليوم وأرملة الشيخ وإبنته الوحيدة نجاة يتلفتون فلايجدون إلا الخلاء الروحي قربهم وذكرى الرجل العظيم وبعضا من عتاده ومتاع دنياه القليل، فإن الصورة السوداوية تكتمل حقا، وتقول لنا كل ماتقوله عن مغرب مؤسف للغاية ليس جيدا فيه أن تكون فنانا عبقريا وعصاميا تصنع نفسك بنفسك، بل الأفضل أن تكون تاجر مخدرات أو غنيا من أغنياء حرب الفقر الت يتنخر البلد، وأن تترك لأنجالك شيئا يقتاتون منه ويعيشون في رفاه بفضله عوض أن تترك لهم فنا في بلد لااعتبار فيها للفن إطلاقا...
رحم الله الشيخ، ورحم معه الفن المغربي الذي يتقن الموت فقط...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق