الاثنين، 22 أكتوبر 2012

ضد التبعبيع الجماعي

العيد على الأبواب. وبالحساب الرقمي المضبوط, ثلاثة أيام فقط هي التي تفصلنا عن العيد الذي يسميه المغاربة "العيد الكبير". كلمة الكبير هنا تغني عن أي نقاش, وتحيلنا على المكانة التي يعطيها شعبنا لعيد الذبح واللحم هذا. جولة صغيرة في كل مكان كافية أيضا لكي تنقل الأجواء الغريبة التي ينخرط فيها الجميع. سكاكين تشحذ هنا, و"شواقير" يعاد التأكد من حدة نصالها هناك. شوايات من مختلف الأحجام والألوان والأشكال, تباع لكل راغب في إشعال النار يوم العيد, وعطرية منها المهرب الذي ثبت أنه ضار صحيا, ومنها البلدي المصنوع "على اليد", و"على حقو وطريقو" من أجل مواكبة الاحتفالات باللحوم الحمراء التي ستدخل بطون الفقراء المغاربة هذا الأسبوع. ثم هناك القروض. اقتراحات في كل مكان, تبدأ بسعر الأضحية دون فائدة, وتمتد إلى إهدائك ثلاجة أو "شي عجب آخر" إذا ما قررت المغامرة بمبلغ زهيد كل شهر من أجل مبلغ تدفعه لك شركة القرض تلافيا لأي نوع من أنواع الإحراج مع الجيران أو مع الأهل أو من الأغراب أيضا طالما أن حكاية العيد الكبير في بلدنا هي حكاية الجميع دونما استثناء, وإلا مامعنى أن تكون عابرا بخروفك في الشارع, فيسألك الجميع "بشحال داك المبروك؟", دون أن يحسوا بأنهم يتطفلون عليك, أو أنهم يسألونك عن خصوصية لا دخل لهم بها نهائيا. ومع كل الأجواء المرحة وأحيانا المضحكة التي ترافق هذا العيد الكبير, لابد من ملاحظة بعض الأشياء غير السارة كثيرا التي يجب التوقف عندها. هذه الرغبة الغريبة في الانتحار المادي من طرف أناس غير قادرين على العيد. هذه الروح البدائية التي تعود لكي تهجم على شوارعنا من خلال مشاهد التبن والعلف والبصل الذي يباع في الشوارع, وأيضا من خلال رائحة الغنم التي تصبح عادية في كل مكان هاته الأيام. هذا الابتعاد الفج عن معنى الأضحية في عيد الأضحى, والتنافس بشكل مخجل ومهين بيننا جميعا حول من سيشتري "الحولي الأكبر", وحول من سيبلغ "راس السوق", وحول من "سيطير بالمليح أو سيطير المليح به" الله أعلم. هذه الظواهر المشينة التي تشهدنا ونشهدها كل عيد, والتي تزداد بفعل الجهل المطبق على المجتمع استفحالا عاما بعد الآخر, ثم طبعا تلك المشاهد الخرافية فعلا لشعب يتحول كله إلى جزار يوم العيد, متجولا بالسكاكين في كل مكان والدماء تعلوه وتعلو محياه, معلنا الرغبة في المزيد من الذبح والمزيد من السلخ والمزيد من كل هاته الأشياء. كل هاته الأمور يجب أن تجد من يقول لها كفى في مجتمعنا, فإن لم تجد فعلى الأقل يجب أن تجد من يقول لها إنها مشينة على الأقل. كبار القوم وعليتهم, يهربون من هذا العيد لأنهم يعتبرونه بلا معنى عكس فقراء الناس, وطبقة متوسطة _ تكبر يوما بعد يوم _ أصبحت تحس أن اصطحاب خروف _ مهما كان ذلك الخروف طيبا وجميلا ورطب الصوف, ولذيذ اللحم _ إلى العمارة بين الجيران مسألة غير عملية كثيرا, خصوصا وأن الأمر يتعلق بسنة فقط وليس بفرض, وهو مايعني أنه من الممكن طرح السؤال بصيغة أو بأخرى حول إمكانية الاستغناء عن هذا العيد بشكل كامل, والاكتفاء بالواجب الديني للقادرين عليه, شرط تصديق الأضحية على الفقراء المحتاجين, مع العلم أن ولي أمر المسلمين في هذا البلد يذبح أصلا نيابة عن غير القادرين من أبناء شعبه. علماء الدين في البلد الذين يشغلون بالهم بمسائل لا نعرف مدى أهميتها ملزمون بالخروج على الناس في مثل هاته المناسبات لكي يتحدثوا بصراحة, ولكي يقولوا إن كثيرا من ظواهر هذا العيد بالتحديد ليست من الإسلام في شيء, وأن ديننا الذي يحرم إلقاء النفس في التهلكة, يمنع منعا كليا على من لا يستطيع شيئا أن يأتي به, ودورهم ثابت في هذا الباب, لكنهم لا يقومون به, ويفضلون الاهتمام بأشياء لانعرف سبب هوسهم بها, مايعني أنهم بعيدون عن ناسنا, وبعيدون عن شعبنا وبعيدون عن كل مايمس الأهل بالفعل في الأمور الحياتية المهمة التي تؤثر على العام كله. هناك اليوم دعوة في الفيسبوك أطلقت على نفسها إسم "مامعيدينش", لا أعرف ملابساتها ولا السبب الذي جعلها تختار هذا التوجه, لكن أحدا لا يستبعد أن تكون كل هاته الأسباب التي ذكرناها مجتمعة هي علة خروج هذه الصفحة إلى الوجود, وأعترف أنها دعوة تلاقي في النفس لدى العديدين كثير الهوى, وأنها عكس دعوة الإفطار في رمضان ترتكز على معايير موضوعية ومجتمعية ودينية من الممكن أن تجعل الموضوع قابلا للنقاش, شرط القدرة على هذا الأمر فعلا. في حال العكس, أي عدم القدرة على مناقشة الأمر سيكون الحل هو المزيد من "التبعبيع" والسلام.

الخميس، 18 أكتوبر 2012


دفتر العابر

مليئة بالمطبّات
 وكانت النجوم التي ترصّع سماء الرحلة
شاحبةً كجمرٍ مُنهَك
 كنارٍ مضرّجة بالدماء 

لم تكن شقياً بسبب ذلك 
كنتَ فقط تشعر بالبرد 
لم تكن شقياً ولا حزيناً
 رغم إسفلت السهرة المتشقق ورغم الأشجار
التي حلّقت بعيداً باتجاه خريطة أخرى 
ورغم مرايا الغبطة التي انكسرت داخلك 

يرن جرس الباب. مشهد ساعي البريد غير مألوف لدي. قلت لياسين في الكلام الذي تبادلناه يوما إنني تعودت البريد الإلكتروني وأني لم أعد قادرا على مجاراة البريد التقليدي في هبائه، لذلك استغربت أن يرن الهاتف الداخلي للمنزل وأن أطل من الكاميرا التي تكشف كل شيء، فأرى رجلا يتأبط طردا بريديا يقول لي إنه قادم من مراكش 
فتحت له الباب بزر إلكتروني بعيد. تأملت في المفارقة الكامنة بين الإثنين، وانتظرت صعوده. أتى محملا بدفاتر عبور ياسين. 
تلقفت الهدية مثل أي مشتاق لمعرفة المفاجأة الكامنة في تلافيفها. 
توعدني ياسين في الإهداء ببعض الظلال قائلا بأنني سأجد بعضا مني فيها. في الحقيقة لم أجد هذا البعض. وجدتني كاملا فيما خطه هذا الفتى الآسر المسمى ياسين. 
هل قلت لك يوما إن دفاتر عبورنا جميعا ستكتب على صفحات هذا الفيسبوك اللعين؟ أو تعلم أنك، أننا نؤسس للقادم من الكتابة بهاته الخربشات المخطوطة على موقع زوكربيرغ العجيب؟ 
لا أدري، لكنك حرمتني النوم ليل العودة من مراكش. رأيت المنتخب، وعدت منتشيا بالانتصار الوهمي بالرباعية، في الغد أتى الحامل لبريدك متأبطا خيره ومتأبطا الديوان الجميل. 
متعب أنا بعد العودة من الحمراء، لكن غواية القراءة أقوى أحيانا من الغواية التي على بالك، لذلك بدأت و لم أنته إلا وأنا أردد "أكتب لنا المزيد من دفاتر العبور ياهذا"
 سألتك بالله أيها القمر المشدود إلى الغيمة العذراء متى تغيب ليعم العماء فننعم وننسى قليلا كم نكره بعضنا ننسى الزياتين التي على جنبات الطرق ننسى طعم زيتها المر وأوراقها التي يبست في بطون الكتب لرحلة ياسين في الأرض سبب وجيه. لرحلة الفتى المراكشي الهوى والانتماء في الدنيا كلها أكثر من علة تجد نفسها في دفتر العبور هذا. كنت دائما أسأل النفس مع كل عبور جديد إن كنا سنجد يوما من يؤرخ للحظات السفر المتعددة نحو مختلف الوجهات ساعاتها. أتى الجواب عبر هاته الدفاتر, يحث الخطو نحو كل مكان وطأه الشاعر, يجد فيه بعضا من ملابسات العيش ذات زمان, وكثيرا من مسببات الحكي لمن لم يكن معه في ذلك المكان. هل هو التأريخ بالشعر للرحلات؟ لا أدري. وقد يكون لياسين تبرير آخر للأمر, لكنني وجدت في الدفتر آثار المرور من هنا ومن هناك, ووجدت فيه مثلما سيجد القارئ بكل تأكيد علامات الاتصال. من باريس إلى بروكسيل مرورا ببازل وبرلين ففرانكفورت وقرطبة ثم الإبحار طيرانا إلى هيثرو في لندن في مطارات العبور نعلق شخيرنا على أول بوابة لكيلا يصدأ بين جفوننا النعاس نترجل عن غيومنا وسماواتنا نخبئ الأقكار في محاجرنا نبحث عن مدافن هشة لظلالنا ونتخفف تماما من جنون السفر وكأي أندلسي عابر من إفريقيا بعروبة الأمازيغ المنتمين إلى كل الأجناس التي مرت يوما على هاته الأرض, والمسمى بالاختصار المفيد "مغربيا", لا يمكن لغواية السفر إلا أن تكون أكبر من كل الغوايات, هذه الفتنة خلقت لنا نحن الذي ألقت بنا الطبيعة على ضفاف البحرين بين المحيط والأبيض, مطلين على بعد أربعة عشر كيلومترا فقط على الأوربين, محفوفين بظل الرمال المتسربل في أرجلنا بالأفارقة, المسكونين هوسا بالانتماء إلى العرب رغم البعد ورغم الاختلاف ورغم كل الأشياء, والحالمين يوما بالانضمام إلى الشمال الذي نعتقده يشبه عقولنا سر انتمائنا للعبور أننا كنا دوما عابرين, وسر عشقنا للحظات المرور من هنا إلى هناك هو أننا نحمل في الجينات الأولى للتكوين آثار كل من سافروا إلى أن وصلوا هذه الأرض وهذا المكان. لعله السبب الذي يجعلني أعتقد دوما أن في دواخل كل مغربي إبن بطوطة صغير, يعشق الترحال والعبور كلما أتيحت له فرصة ذلك, ويهوى وضع أشعاره على رصيف قيامة كل هاته الرحلات. ياسين في الديوان ليس إلا واحدا منا أتقن القبض على تفاصيل هروبه المتكرر, فأسماها دفاتر للعبور, وجعلنا خلال هنيهات القراءة الرائقة لما أبدعه, ملزمين كل مرة بالسفر معه حتى الأمكنة التي لم نطأها ربما يوما, لكننا نعرفها خير المعرفة وإن بالسمع والإنصات. عمر واحد لايكفي أيتها الأسفار عمر واحد لا يكفي ياخطوط العرض أحتاج أعمارا متلاحقة كأنفاس...

السبت، 6 أكتوبر 2012

بين السينما والسياسة

طنجة. هبة نسيم لافح من جهة شرق لا أفهمه قرب البحر. فيلم متوسطي قصير أول وان وثالث. التماعة العين إذ تجد وسط الظلمة, ظلمة القاعات, حلاوة الفرجة الأولى مرة بعد المرة. نسرق الوقت من الوقت ونقرر أن الذهاب إلى مهرجان للسينما المتوسطية هو أفضل مايمكن القيام به وسط كل الضجيج المحيط بالعالم من كل مكان. شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال. بنكيران محاطا بالمعطلين في كل مدينة. مزوار وتعويضاته. الوفا وقفشاته اللاتنتهي حول الإعداديات التي لا يمتلكها أوباما. الزاكي, الطاوسي, المنتخب, الهزائم, الخيبات تلو الخيبات. هزائم الرياضة, هزائم السياسة, وهزائم الاقتصاد, ثم الهزائم الشخصية الصغيرة تلك التي يقال إنها ملح طعام هذه الحياة, والتي لانفهم لماذا تصر على العودة كل مرة إلى الواجهة. لذلك يبدو الأفضل هو الهروب إلى السينما. ألا يقولون في المبتذل من الكلام "من يحب الحياة يذهب إلى السينما"؟. بلى, يقولونها, لذلك لنذهب. في طنجة هاته الأيام نجد سينما من نوع آخر. فيلم واقعي أكثر من اللازم. فيلم يقوم ببطولته حزبان: العدالة والتنمية من جهة, والأصالة والمعاصرة من جهة ثانية. نقرر مرة أخرى أن الفرجة فرض عين على كل مغربي أينما ذهب, وأينما حل وارتحل ونتابع التفاصيل, بلقطاتها المكبرة, والأخرى البعيدة. بالفلاش باك الضروري كلما تعلق الأمر بالسياسة في المغرب لئلا يعتقد أحد أنها إبنة اليوم أو أنها إبنة حرام لا أب لها. بالمشاهد الخلفة المصورة بالأسود والأبيض, وبالأخرى ذات الألوان الناصعة التي تعيدك إلى الزمن الحالي وتقنياته الرقمية التي غيرت شكل العالم كله, ولم تستطع تغيير جزء صغير من عقولنا. ما هو رهان المعركة اليوم بين الحزبين الأساسيين في البلد؟ الصومعة التي انهارت يوما على رأس البيجيدي وذكرت الكل أن لدينا رموزا دينية من اللازم "تركها في التيقار" إذا ما أردنا تجنب اللعب بالنار, هي صومعة لم نعلق في منتهاها أي حجام. تركناها هي الأولى معلقة, وقلنا "لنعد الانتخابات في طنجة وفي مراكش". مع الوقت, ومع بدء الروتين في التسرب إلى القلوب والعقول من نكت الوزير الأول, الذي لم يستطع أن يتحدى الملل رغم التنويعات الكثيرة التي قام ويقوم بها, أصبحت للمعركة وجوه أخرى غير الوجه الأول. ولو دارت هذه الحرب الانتخابية قبل أشهر فقط لكان الفوز فيها دون أي إشكال حليف العدالة والتنمية, لكن العجلة دارت وإخوتنا دخلوا دار الطاعة, ودخلوا دار تسيير الشأن العام, واكتشفوا حقيقة ماكانوا يتحدثون عنه عن بعد, ففهموا أن الأمور ليست مثلما كانت تتراءى لهم قبل الوصول. هنا لعب أهل الأصالة والمعاصرة اللعبة جيدا, وفهموا أنها فرصتهم الأولى قبل الانتخابات الجماعية _ التي لانعرف إن كانت ستجرى في تاريخ محدد أم أنها متروكة مثل بقية أشياء البلد للصدفة البحت _ لكي يزعزعوا بعضا من قلاع العدالة والتنمية, وفي مقدمها طنجة ومراكش, مع االأهمية التي للمدينتين إن على مستوى الحجم أو السكان, وإن على مستوى وجود التيار السلفي المتطرف بهما. معنى الكلام من الختام هو أن أي مقعد قد "يختطفه" البام من المدينتين إشارة قوية أن المعركة لم تنته بالنسبة إليه. ومعنى الكلام من الجهة الأخرى أن الفوز بنفس الاكتساح الذي حققته لائحة بوليف والصومعة في السابق من الانتخابات بالنسبة للعدالة والتنمية دليل عافية ودليل عدم تصدع رغم الحكومة ورغم الاحتجاجات, ورغم كل الأشياء. بالعودة إلى السينما, عندما تكتب سيناريو لفيلم ما, تجرك الشخصيات بملامحها وطباعها أو مايسميه أهل الحرفة "الكاراكتير" إلى منعرجات قد لاتتوقعها قبل البدء في الكتابة. تترك _ إذا كنت راغبا في تتبع الأمر إلى نهايته _ لهاته الشخصيات ولهاته المامح أن تكتب عوضا عنك الفيلم وتطوراته والعقدة فيه والنهاية. في السياسة المغربية الأمر لا يختلف كثيرا. الكتابة الأولى وضعت نصا ما, وتطورات الملامح التي تعيشها كل شخصية من شخصيات السيناريو الأول تفعل فعلها مثلما تريد ذلك, ملما تعيشه ومثلما يبدو لها أنه من اللائق للأحداث أن تتطور. وتماما مثلما يقع في السنما المغربية التي تنسى أن لديها جمهورا تتوجه إليه, تنسى السياسة وكتاب السيناريو لها في البلد أن متفرجين يريدون متابعة لا تدفع بهم إلى الجنون, لحكاية لها بداية ولها عقدة ولها نهاية. مشكلة من يكتبون لنا السيناريوهات _ في السينما وفي السياسة وفي كل الحياة _ هي أنهم يكتبونها وهم في "حالة غير طبيعية" باستمرار. لذلك نثمل كلما تابعناها, ونستفيق في اليوم الموالي مسائلين النفس "واش هاد الشي طرا ولا غير جاب ليا الله"؟

الأحد، 26 غشت 2012

ولاء و"ولاء"

النقاش الذي أثير في المغرب حول حفل الولاء, نقاش يستحق الكثير من الاهتمام, وإن انتهى نهاية لاتليق ببلد مثل بلدنا تعود على كبير النقاشات دون كثير إشكال. اليوم السؤال يطرح نفسه بحدة وبصوت مرتفع, وأيضا بكل شجاعة: هل ينبغي الإبقاء على الطقوس المرافقة للاحتفال بعيد العرش كل سنة؟ بالنسبة للعديدين, هم ربما أغلبية هذا البلد, وكاتب هذه الأسطر منهم, الجواب هو نعم. لدينا تقاليدنا التي لم نر فيها في يوم من الأيام أي انتقاص من كرامة أو امتهانا لإنسانية أو آدمية, بل اعتبرناها من التوابل المرافقة للمشهد المغربي العام, تمتح كل جمالياتها من الألوان المرافقة لمشهدنا العام, والتي تأخذخا من هذا المشهد نفسه. عشنا في البلد لسنوات وسنوات على المشهد لانرى فيه أي عيب, ولم نتخيله منظر عبودية أو ارتفاع شخص عن آخرين, بل كان بالنسبة للمغاربة طقسا من طقوس بلدهم, يشبه الطقوس التي يرونها في البلدان الأخرى, حين يرتدي نواب بريطانيا باروكات الشعر مثلا, أو حين يقبل الروسيون بعضهم البعض من الأفواه, أو حينما يلتقي الخليجيون بالأنوف مع بعضهم البعض. اليوم هناك رأي ثان يعبر عن نفسه, انطلق مما وقع في العالم العربي لكي يقول إن مايقع في حفل الولاء عبودية وامتهان للناس, ويطالب بمنع الحفل أو إلغائه أو النقص من الطقوس المرافقة فيه. لنتفق أنه من حق أي كان أن يعبر عن رأيه, وأنه من المفروض اليوم أن نفتح هذا النقاش بصوت مرتفع بين الجميع, وأن ننصت لكل الآراء, وأن نتيح لأصواتنا المختلفة بأن تقول ماتريده, وأن لا نصادر حق بعضنا البعض في التعبير عن الرأي والرأي الآخر. معنى عدم المصادرة هو أن لانعتبر المدافعين عن بقاء واستمرار حفل الولاء "ممخزنين", أو "منبطحين" أو "راغبين في التسلق", وأن لانعتبر بالمقابل الراغبين في إلغاء الحفل أو النقص منه أعداء للوطن يبحثون عن منافذ لتسريب الفتنة إلى البلد. لا, العقل السليم يفترض أن ننصت للجميع, وأن نتيح للحوار أن يتم, وأن نتفادى ماوقع يوم الأربعاء من الجهتين: الجهة التي اعتبرت أن تنظيم وقفة احتجاجية من شأنه أن يمس حفل الولاء وأن يلغيه فعلا, والجهة التي اعتبرت أن الرد على الوقفة الاحتجاجية يكون بضرب المشاركين فيها وتفريقهم بالعنف لئلا يتمادوا في غيهم. المشهد كان مخجلا بالفعل يوم الأربعاء حيث تأكدنا أن ثمة رغبة من جهتين معا في تأزيم الوضع في بلد لا يقبل بهذا التأزيم, ولا يريده, ويعبر بكل ما يمتلك من قوة أنه يريد الإصلاح الديمقراطي كله, لكن يريده بسلم. الجهة الأولى هي جهة المعارضين للمسار العام التي لاتستطيع التعبير عن نفسها, والتي تعد أقلية بالفعل في البلد , ورغم ذلك تحرص على لأن تسمع صوتها بطرق متشنجة بعض الشيء, من أجل الوصول إلى هدف اتضح ويتضح كل يوم أنه غير ممكن في المغرب. الجهة الثانية تنسى أننا محصنون في المغرب ضد مايريده الأوائل, وتسعى إلى الرد على التشنج بتشنج أكبر منه, وتنتج لنا المشاهد التي تناقلها العالم أجمع لشرطتنا وهي تضرب صحافيا أتى ليغطي الوقفة, أو لبوليسنا وهو يردد عبارات سيئة في حق ناشطين سلميين مهما كانت مطالب هؤلاء الناشطين. لانحتاج في المغرب اليوم إلى شيء أكثر من احتياجنا للاعتدال في كل نقاشاتنا, وبالتحديد في هذا النقاش الهام, مثلما نحتاج إلى عدم الحديث باسم الشعب لأننا رأينا عدد من حضروا الوقفة يوم الأربعاء, وأيضا نحتاج إلى عدم شيطنة من يريدون التعبير عن رأيهم المعاكس لرأي أغلبية المغاربة ماداموا في طور التعبير السلمي عن الموضوع ككل. شيء آخر لابد من قوله في هذا الموضوع. المغاربة أسسوا لتاريخهم بطريقتهم الخاصة, وكونوا كثير العادات والتقاليد في تسيير شأنهم العام وشأنهم الخاص, وعلاقتهم بعرشهم وبملكهم. واليوم نستطع القول بكل شجاعة وافتخار أن الملك الحالي لايشبه من سبقوه لأن دلائل انفتاحه وإيمانه بالحرية وبالآراء المختلفة مسألة لم تعد تحتاج إلى برهان, وهي التي تتيح للبلد اليوم كل انتقالاته السلمية نحو الديمقراطية الفعلية التي يستحقها شعبنا, لذلك يجب أن يكون نضجنا كبيرا في التعامل مع هذه المسألة الإيجابية لئلا نفقدها كل الجوانب المضيئة فيها, وندفع نحو تأزيم لا حاجة لنا به نهائيا. ولاؤنا لهذا البلد. ولو وضعنا هذه المسألة نصب العين فعلا, لن نجد أي مشكل في تحديد علاقتنا بكل الولاءات الأخرى. هذا هو أس النقاش بالفعل

الاثنين، 13 غشت 2012

عائد إلى الصحراء

خايبة بنادم يهضر قبل من الفطور. لعل بنكيران يقولها لنفسه الآن بعدما لم يلتقط المستمعون والمشاهدون من خطابه أمام مجلس المستشارين إلا عبارة "الجوع باقي كاين فالمغرب". إلى الدرجة التي جعلت العديدين يقولون تعليقا على عبارة عبد الإله "إن صوم رمضان فرض عليه اللجوء للقاموس المطبخي هذا". لكن "بيناتنا" ودون ضحك "دابا", يجب الاعتراف فعلا أن مناطق في المغرب تعيش مايفوق الجوع بالفعل, وأن هناك مواطنين لنا تركناهم في الهوامش وفي هوامش الهوامش, منسيين تماما إلا من رحمة الذي لا ينسى أحدا, أي الخالق جلا وعلا. رحلة الصيف قادتني لبعض هاته المناطق, واكتشفت أنه من الممكن تدبر أمر الشهر كله بخمسمائة درهم. صدقوا أو لا تصدقوا. هناك مواطنون مغاربة كل مايصلهم الشهر كله هو هذا المبلغ, ورغم ذلك يعيشون, ويأكلون ويشربون قدر المستطاع فعلا, لكن الأساسي هو أنهم يعيشون. وحين يتحلقون في المساء حول إبريق شاي يعطيك الإحساس أنه مر من كل الحروب العالمية التي عبرت الكون, يضحكون. لا يكتفون بالابتسامات الصفراء المنافقة التي يتبادلها أهل المدن العمملاقة فيما بينهم. لا,هم يقهقون حتى يتبدى أثر الأسنان التي فعل بها الزمن الغريب فعله, ولا يكترثون. تسألهم عن الغد, عن المستقبل, عن الأشياء التي نعتقد _ ونحن نخطط هباء لها لكأننا سنعيش أبد الدهر _ أننا نفعل جيدا بضبطها, فيردون بالنظر إلى فوق مع الإشارة العفوية من الأصبع الموحد للسماء أن "غدا ربي بوحدو اللي عارف شنو غادي يوقع فيه". في مكان ما قرب الصحراء, غر بعيد عن مولاي علي الشريف, أناس من عمق العمق, طيبوبتهم قاسية حد عدم التحمل. جديتهم لا توصف. المعقول كلمة يستعملونها في المعيش اليومي, وليس فقط في الحملات الانتخابية مثل البعض, لايملكون شيئا يهدونه إليك غير تمرات رطبة شهية من عين المكان, تنزل مباشرة من النخلة إلى أمعائك. في مذاقها ملوحة لا تناسب الحلاوة التي ترافقها. هي ملوحة العيش وسط التهميش ووسط الفقر, ووسط النسيان. تأتي إلى هؤلاء الناس أخبار المدن العملاقة مرة بعد الأخرى. يسمعون عن الشقق الغالية, وعن السيارات التي تساوي ثمن الشقق وعن سكان المدن الذين يحيون "بالكريديات". ترى الابتسامة وقد علت المحيا منهم, وترى الإيمان بأنهم محظوظون رغم كل شيء, في أنهم قد نفذوا من المصيدة ولم يقعوا في حبالها, وقد غزا الملامح المسمرة التي تشكلهم. يقول كبيرهم على شكل حكمة بليغة للغاية يوم الوداع "الجوع ماشي ماتلقاش شنو تاكل وشنو تشرب آولدي. الجوع الحقيقي هو أنك تبقى غير كتجري حياتك كلها". لهم البقاء, ولهم القدرة على صفع الحضارة الزائفة بحضارتهم الفعلية واللاتزول. تحاورهم _ باعتبارك صحافيا زعما _ عن الأشياء التي تنقصهم في ذلك المكان البعيد. يسردون عليك أقاصيص العيش الصعب مع المستشفيات والمقابر. تقول إن هناك أشياء أجدر بالحكي عنها غير المرض والموت, فيبتسمون ببداهة طيبة مرة أخرى, ويقولون إنهم يتدبرون أمر كل الأفراح والمصاريف التي تأتيهم من أجل أشياء الحياة, ويصبرون بخصوصها كثيرا, بل غالبا مايطبقون تجاهها المثل الشهير "كم حاجة قضيناها بتركها", ويمضون. لكن في الأحداث الأليمة. حين تمرض لك أم كبيرة ولا يسعك إلا أن تنصت اليوم بطوله لآهاتها وهي تمزق أحشاءك, حين يصرخ صبي ولد بالكاد ولا تعلم ما الذي ينبغي أن تفعله من أجله, وعندما يسلم الأعزاء الروح فتفكر في الكيلومترات الطويلة التي عليك أن تقطعها من أجل أوراقهم الثبوتية التي تؤكد الحياة والممات وتؤكد العبث قبل وبعد كل الأشياء, حينها تحس بقسوة العيش في هذا المكان, ويبدو لك المتحدثون في التلفزيون عنك وعن مشاكلك كذبة من طراز رفيع حينها فقط تسألة نفسك بحرارة ولوعة "واش حتى حنا مغاربة؟ وواش حتى حنا محسوبين على هاد البلاد؟". لاتجد ردا مفحما ولا جوابا حقيقيا يليق بالسؤال وقسوته, فتحزن مجددا وأنت تلمح في أعين العائدين من المدن بعد الدراسة والتحصيل إلى جحيم البطالة القاتل الكثير من الحقد على كل الأشياء. يختزلون العالم كله في جملة "اللي عندو الزهر ولا ماعندوش", ويعرفون أن الحياة العجيبة خلقتهم دون حظ منذ الوهلة الأولى هناك, وفرضت عليهم أن يقاسوا مرتين من أجل العيش ومن أجل قليل من هاته الحياة. والعودة تستحث خطاها من هناك, كانت صورهم جميعا تترى الواحد بعد الآخر. ملامحهم التي تشبه ملامح الأجداد والأصل الأول تقول كل شيء: سمرة عصية على الوصف, وتجاعيد في أماكن غير متوقعة, وإصرار على المضي قدما مهما كلفت محاولة العيش أو التعايش هاته من ثمن...دون نسيان الأهم: الابتسامة الطيبة المرافقة لكل هذا الحزن وكل هذا الشجن. لهم البقاء, فهم حقا كل الامتداد

الثلاثاء، 7 غشت 2012

صورة بلد في الختام

والكل يستمع لسعيد عويطة على "الجزيرة الرياضية" يتحدث عن المنشطات في ألعاب القوى المغربي, وعن "الوسخ" مثلما قال الذي يحيط بكل مكان في الرياضة بالمغرب اليوم, تمنيت لوهلة صغيرة أن يسكت الرجل. لا أعرف لماذا, ولست من أنصار "خللي داك الجمل بارك", وأعتبر أن مهمة الصحافة هي أن تفضح المستور, لكن على شاشة "الجزيرة الرياضية", ووسط كل لحظات السقوط المدوي لأبطالنا أو لمن هم في حكم أبطالنا خلال الأولمبياد, وقبله وبعده بكل تأكيد, تمنيت من سعيد أن يسكت. الرجل طبعا لديه حسابات عالقة مع جامعة ألعاب القوى, أو لنقلها بصراحة لديه حسابات مع عبد السلام أحيزون شخصيا, وإذ يمكن تفهم العداوات الشخصية المبنية على تضارب الحسابات, لا يمكن نهائيا تفهم تصفية الحساب عبر قناة أجنبية ضد بلد بأكمله. العرب الذين كانوا يشاهدون نقل الجزيرة الرياضية لمنافسات ألعاب القوى, لايعرفون أن عويطة كان مديرا تقنيا لمنتخب المغرب تصادم مع عبد السلام أحيزون رئيس الجامعة, وغادر البلد غاضبا لاعتبارات كثيرة ليس هنا أوان ذكرها. العرب الذين كانوا يتابعون ذلك النقل المباشر, وكانوا ينصتون لعويطة يجلد بلده بالمباشر, فهموا شيئا واحدا لاغير: المغرب بلد فاسد ممتلئ بمجرمين يعطون للرياضيين فيه المنشطات, وكفى. كان ممكنا لعويطة أن يتعالى عن تصفية الحساب الشخصي لحظتها. كان ممكنا له أن يربط الإخفاق المغربي بالإخفاق العربي العام. أن يذكر من يحدثه من معلقي الجزيرة ومن ينصتون إليه من مشاهديها أننا فعلا في الهم شرق, وأن الدول أحرزت حتى اليوم السادس أو السابع من المنافسات عشرات الميداليات من كل المعادن, وأن "الكسيحين" الوحيدين في العالم الذين توقف حصادهم عند نحاسية يفخرون بها, وفضية يغنون لها هم العرب بمختلف تشكيلاتهم _ مع الشك في صحة نسبتنا جميعا إلى هذا الوصف رغم أننا نتحدث لغته ونكتب بها _ كان ممكنا أيضا لسعيدنا الوطني أن يقول إن مشكلة المنشطات هي مشكلة عالمية تهدد الرياضة في مختلف الدول, وأن نموذج البطل الذي كنا نعتبره خرافيا لانس أرمسترونغ في رياضة الدراجات والذي ثبت تعاطيه للمنشطات في الولايات المتحدة هو أفظع نموذج على مايقع اليوم في هذا المجال. كان ممكنا لعويطة أن يناصر مريم العلوي السلسولي وأمين لعلو والبقية _ وإن كان الشك لازال مخيما على الموضوع ككل _ وأن يقول بأن ضغط النتائج وعدم وجود مرافقين نفسيين للاعبين, وكل الانتقادات التي توجه للعدائين في المدة الأخيرة بكونهم لم يعودوا قادرين على شيء, بالإضافة إلى حداثة السن, كل هذاا قد يجعل البطل يضعف, ويمر إلى لحظة تناول شيء ما قد يساعده في لحظات السباق كان ممكنا لعويطة أن يقول إنه ينتظر التأكد من الخبر, ومن صحة أو عدم صحة تناول أبطالنا للمنشطات, وبعدها سيتحدث. كان ممكنا الكثير, إلا الاختيار الذي اختاره سعيد _ سامحه الله _ خصوصا حين قام معلق الجزيرة الرياضية الذي كان يرافقه بتقديم الحديث عن المنشطات والمغرب تقديما تلفزيونيا "قيما" للغاية, وقال "بعد قليل سنتحدث عن مسافة 1500 متر بشكل حصري على قناتنا وسيقول لنا البطل سعيد عويطة أشياء ساخنة وخطيرة". المغاربة الذين أنصتوا لهذا التقديم فهموا أن القناة تمارس إشهارها على حساب بلد بأكمله, لكنهم تمنوا أن يكون إبن البلد أذكى من اللعبة وألا ينجر إليها, لكن سعيد رسب فعلا في الامتحان, وبدا صغيرا للغاية, وهو يروج لنفسه ولرغبته في أن يكون رئيس جامعة ألعاب القوى على الهواء مباشرة. سعيد عويطة بطل أسطوري. هو لوحده قدم للمغرب ما لم يقدمه أحد من قبل. عرفنا العالم عن طريق سعيد, وجميله في رقبة كل المغاربة إلى يوم الدين. لكن سعيد عويطة المحلل الرياضي أو المعلق التلفزيوني بدا هزيلا جدا, وبدا أهزل من أن يكون صنوا لسعيد عويطة البطل الذي نعرفه. سعيد الذي يتقاضى أجره بالدولار من قطر نظير سب بلده على الهواء مباشرة لتصفية حساباته الشخصية, هو أصغر من أن يكون سعيدنا الوطني الذي استفاق المغرب كله سنة 1984 في الفجر لكي يراه يجري ويحمل راية المغرب في الآفاق. خطوة صغيرة تفصل بين البطولة بمعناها النبيل, وبين الصغر بمعناه المنحط كثيرا, الذي يجعل أنانية المرء تنتصر على ماعداها وتورطه في أشياء لا يحق له أن يتورط فيها. المغرب أكبر من أن نسبه على شاشة "الجزيرة الرياضية" آسي سعيد, وإذا كان هناك من حساب ما فلتأت إلى البلد ولتفتحه علنا. هذه هي أخلاق الأبطال الرياضيين الحقيقية, بالمنشطات أو بدونها.

الخميس، 2 غشت 2012

إخوة الريسوني الملحدون

إخوة الريسوني الملحدون ارتكب أحمد الريسوني, يوم الإثنين الفارط أي يوم عيد العرش بالتحديد مقالا جديدا من مقالاته الرمضانية التي ألف أن يهيج بها العوام, وأن يدس السم من خلالها في الدسم, وأن يطلق العيارات النارية التي يعتبر أنها _ وإن لم تصب تدوش مثلما يقول المصريون_ تماما مثلما فعل في عام سابق حين فتح النار على المهرجانات الفنية ومن يرعاها, ثم سارع إلى وقف الحلقات التي كان ينشرها بعد ان أوصل الرسالة التي كان يبغي إرسالها إلى من يهمه الأمر. مقال الريسوني ليوم الإثنين الفارط عبر "المساء", حمل عنوان "انتفاضة الإخوان الملحدين بالمغرب", وتضمن أكبر قدر ممكن من الخلط بين الأشياء إلى درجة طرح السؤال عن الوضعية النفسية التي كتب فيها الريسوني مقاله. إذ قفز فيه بين الحديث عن خوف المشارقة من الشيعة والتشيع إلى الحديث عن قوة من أسماهم الإخوة الملحدين في المغرب, مرورا بعدم القدرة على الجهر بمن يعتبرهم هؤلاء الإخوات الملحدين, والاكتفاء بالغمز واللمز من كل مكان ومن كل ناحية, إلى أن يخيل لقارئ المقال أن الريسوني يقصد الجميع دونما استثناء اللهم طائفته التي يعتبرها ناجية, والله أعلم بطبيعة الحال. فقيه التطرف القاطن في جدة والمستعد للعودة إلى البلد, والذي يجد في منابر معينة من يقدس فكره "المقاصدي" حد جعله البديل المنتظر لكل مؤسسات الدولة الدينية, إذا مادانت الأمور يوما, يريد إيهام من طالعوا مقاله الخطير ذاك أن كل من يدعو لحرية في البلد هو ملحد, وهذه المسألة ليست تكفيرا فقط للناس دون وجه حق, بل هي استعداء للعوام عليهم, خصوصا إذا أتى الكلام ممن جلس يوما أمام أمير المؤمنين ملك البلاد لكي يلقي درسا حسنيا من الدروس التي ألفنا في هذا البلد أن يلقيها أئمة الاعتدال وفقهاء الوسطية الراغبون في إيجاد السبيل للتوحيد بين الناس, لا الباحثون عن منافذ للفتنة تنفيسا للعقد الشخصية الصغيرة, أو تحقيقا لأحلام التشبه بالقرضاوي ومن على زمرته ممن باعوا دين الله ببترودولارات قطر والناتو وغيرهما من الجهات المانحة. هل نقول إننا فوجئنا من موقف الريسوني؟ سنكون كاذبين بكل تأكيد. الرجل لا يضيع اي فرصة لكي يقول مايعتقده في المجتمع المغربي, الذي يعتبره خليطا من "الإخوان الملحدين", إذ جمع في التصنيف المذكور أعلاه طوائف عديدة من الناس لو عددتها حقا لوجدتها المغرب كله: الفنانون, والجمعيات الحقوقية, والجمعيات الإنسانية, والأحزاب السياسية والإعلام, والطبقة السياسية. ولن نقول مجددا إن التصنيف الخطير للمجتمع على أساس التفريق بين ملحدين ومؤمنين هو تفريق خطير قد يجعلنا في يوم من الأيام نحمل السلاح في وجه بعضنا البعض من أجل نصرة الإيمان على الإلحاد, أو من أجل العكس, لكننا سنقول إن من يرى في السعودية ملاذه وملجأه, ويعتقد أن النموذج المجتمعي الذي هرب للعيش فيه هو أفضل من النموذج المجتمعي الذي يقترحه هذا البلد على ساكنته _ المؤمنة رغما عن أنف من يعتقد أنه يملك صكوك الغفران _ لايمكنه نهائيا إلا أن يأتينا حاملا رسائل الفرقة والتشتيت هاته التي لا تستوعب نهائيا المعنى الفعلي للحمة المجتمع المغربي. هذا البلد عصي فعلا على الفكر الفرقوي الذي يمثله الريسوني ومن سار على الهدي العجيب الذي يقتنع به. والأخ المؤمن, إذ يكتب اليوم بهذه الحدة ويسمي جزءا كبيرا من المجتمع إخوة ملحدين فإنما يعبر عن سخط من آمن فعلا أن البلد سائر في مساره لا يهمه أن تسقط ليبيا بين أيدي سلفيي القاعدة, أو أن يحكم مرسي باسم الإخوان والسلفيين أرض الكنانة اعتمادا على تحالف عجيب مع العسكر والأمريكان, ولا أن تقنع النهضة منصف المرزوقي أنه رئيس فعلي في تونس التي تخوض يوميا معاركها من أجل عدم السقوط النهائي بين أيدي القاعدة, ولا أن تتعدد كل النماذج التي تتشابه في بقية البلدان وأن يبقى المغرب نسيج وحده, والبلد القادر على إشهار عبارة الاستثناء المغربي في وجه الجميع دونما خوف من كذبها في يوم من الأيام. هذا البلد لديه حصانته التي بناها على امتداد السنوات والعقود والقرون, وعلى رأس الحصانات مؤسسة إمارة المؤمنين التي تعفينا من اللجوء لأشخاص يشبهون القرضاوي قد نشتريهم بالمال لكي يصبحوا مفتين رسميين لنا. لدينا مؤسساتنا ولدينا شعبنا الذي يحيا العلاقة بين دينه ودنياه مثلما يتصورها, ولدينا طبعا في الختام هؤلاء الذين يتصورون المغاربة شعبا من الإخوة الملحدين, ولا يستحون في اللجوء إلى مثل هاته التصنيفات القاتلة, لكنها ضريبة التوفر على كل شيء في نهاية المطاف في بلد ألف منذ القديم أن يحتوي كل شيء.

الأربعاء، 1 غشت 2012

الرجا فالله

إيوا شفتي دابا اللي مابغيناش؟ المغاربة أرادوا أن يستمتعوا قليلا مع البارصا, "ندماتهم", وخلقت حالة من السخرية لم يسبق لها ان اجتمعت في لحظة واحدة في تاريخ المغرب مثلما اجتمعت عقب لقاء برشلونة والرجاء بثمانية أهداف لصفر. قال القائل إن الرجاء ستغير إسمها لكي يصبح من الآن فصاعدا "الرجا فالله" دلالة العجز الكبير أمام الطاحونة الكاتالانية. وقال القائل الثاني إن "حسن الحظ هو الذي جعلنا نلاعب البارصا يوم ثامن رمضان فانتهت المباراة بثمانية أهداف أما لو لاعبنا ميسي ورفاقه يوم 29 رمضان لانتهت النتيجة بتسعة وعشرين هدفا كانت ممكنة بكل تأكيد". أما القائل الثالث فعدد أسماء كل الذين لم يحضروا من نجوم البارصا من تشافي إلى إنييستا مرورا بفالديز وبيكي وبيدرو وسيرجي, قبل أن يتساءل عن النتيجة لو أتت الأرمادا الكاتالانية بأكملها. المهم, الكل قال إلى الدرجة التي شعر فيها المشجع الرجاوي أنه لوحده في البلاد, وأحس بغير قليل من الغصة وهو يرى تكالب الجميع عليه من أجل الضحك منه ومن النتيجة التي حققها فريقه, علما أن المسألة في الختام عادلة, لأن اختيار الرجاء لملاعبة البارصا تم دون أي معايير واضحة اللهم العلاقات الشخصية التي حددت هوية الفريق الذي سيحظى بشرف اللعب أمام ميسي ورفاقه قبل أن يصبح هذا الشرف تهمة فعلية بعد النتيجة الثقيلة والمخجلة والتي لاينبغي أن تنسينا على كل حال أن الأمر يتعلق بلقاء ودي أولا وآخرا. الأساسي من كل ماوقع هو أننا اكتشفنا بأن رمضان في المغرب قد يكون حافلا بالسخرية والضحك, عكس مايقنعنا به تلفزيوننا, بعد أن تفتقت عبقرية المغاربة الضاحكة عن كثير النكت والنوادر بخصوص اللقاء, مثلما اكتشفنا أننا يجب أن نحسب من الآن فصاعدا بعض خطواتنا قبل الارتماء فيها دون أدنى تفكير. ذلك أن السؤال الذي يطرحه أي رجاوي اليوم, ومعه أي مغربي هو : ما هي الاستفادة التي استفدناها من لقاء البارصا؟ طبعا هناك الإشعاع العالمي لحضور فريق من هذا الطراز إلى بلدنا, لكن على المستوى الرياضي ما الاستفادة؟ وما الربح؟ في الحقيقة لا وجود إلا للخسارات تلو الخسارات. الخسارة الأولى رقمية من خلال النتيجة التي دخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية والتي فقد بموجبها الرجاء لقبه كفريق عالمي, بعد أن بدا هزيلا للغاية, بل وغائبا تماما, غير قادر حتى على رص صفوف دفاعه من أجل تفادي المزيد من الأهداف. الخسارة الثانية نفسية للفريق الأخضر الذي يؤسس لفريق كبير على المستوى المحلي والقاري, واشتغل طيلة فصل الصيف على اشتراء كل اللاعبين القابلين للبيع والشراء, وكان يفترض أن يبدأ تحضيراته للموسم بلقاءات ترفع روح لاعبيه وجمهوره المعنوية, لا بلقاء يدك الحصون الرجاوية, ويوجه ضربة قاتلة فعلا لمعنويات اللاعبين الذين فهموا أن الكرة التي يلعبونها شيء, وأن الكرة التي تلعب في بقية أنحاء العالم شيء آخر. لكن وبغض النظر عن هاته الخسارات المتتالية التي يمكن أن نضيف إليها الخسارة الفرجوية بعد أن عجزت الشركة التي نظمت اللقاء عن ملء مدرجات ملعب طنجة الجديد, رغم أن ماراج في البدء هو أن المباراة ستلعب بشبابيك مغلقة, وهي مسألة اتضح كذبها تماما, تبقى الاستفادة الكبرى التي حققناها جميعا من مباراة البارصا والرجاء هي استفادة فهم مستوانا, نحن الذين تعود إعلامنا الرسمي على أن يكذب علينا ويبيعنا أوهاما لانعرف من أين يأتي بها عن أمجاد كرة القدم الوطنية, وعن إنجازات وهمية حققناها, لا نعرف لها تاريخا ولا نعرف لها حقيقة من خيال. يقال لنا عادة إننا سجلنا في مرمى ألمانيا في مونديال 1970, وأننا فزنا على البرتغال في مونديال 1986, وفزنا على سكوتلندا في مونديال 1998, وأننا _ باش نكملو الباهية _ تعادلنا في اللقاء الأخير من كأس إفريقيا بإثيوبيا سنة 1976, ومن ثمة فزنا بالكأس القارية الوحيدة التي توجد لدينا. هذه ليست إنجازات. هذه كذبة كبرى نرددها على أسماع بعضنا البعض لكي نقنع أنفسنا بغير الواقع. حقيقتنا الكروية هي مارأيناه يوم السبت الماضي, وإذا ماأرادت الكرة المغربية يوما تحركا في اتجاه ما علينا أن نقنع أنفسنا أننا "عمرنا مادرنا شي حاجة عليها القيمة في هذا المجال", وأننا ملزمون بالبدء من الأسفل والعمل بجد كبير إذا ما أردنا تحقيق أي شيء. "مابغيناش", من حقنا أن نواصل زراعة الوهم بيننا, لكن علينا ألا نصدم كثيرا حين تأتي فرق حقيقية إلى بلادنا وتهزم "أفضل فرقنا" بالثمانية وتمضي لحال سبيلها.

الثلاثاء، 31 يوليوز 2012

محمد السادس

13 سنة مرت منذ تلك اللحظة العصية على الوصف. أنصتنا كل واحد منا في مكانه لمصطفى العلوي ينعي الملك الوحيد الذي عرفناه جميعا, أو الذي عرفته أغلبيتنا, وانتظرنا التحول الكبير الذي سيطرأ على ولي العهد أو سميت سيدي, وشرعنا في اكتشاف الإسم الجديد. في البدء كان محمد بن الحسن, ثم تعودنا الإسم الرسمي محمد السادس. بعد ذلك سنقول لأنفسنا كل مرة فوجئنا فيها مفاجأة سارة جديدة, إننا ربما لم نعرف ملكا آخر غير هذا الملك. هل يحق اليوم المدح في الرجل؟ في الحقيقة المسألة جد معقدة. ففي بلد مثل البلد لايمكنك أن تقول كلمة طيبة عن أي إنسان كيفما كان نوعه دون أن تشير إليك الأصابع "هادا مالو؟ وشحال واخذ؟", فمابالك بملك البلاد؟ عبارات الاتهام بالتزلف الكاذب والنفاق المداهن ستكون جاهزة طبعا, وبسهولة كبرى, لكن لايهم. هناك حديث صحيح يقول "من لم يشكر الناس لم يشكر الله", وهذه الأسطر هي عبارة شكر صغيرة من مواطن بسيط باسم مواطنين آخرين يشبهونه يرون أنه من اللازم بين الفينة والأخرى أن نخرج من توافقنا على بعض الأمور من أجل تلافي سماع الكلام, لكي نقول جملا بسيطة وضرورية جدا, مثل جملة أو عبارة "شكرا جلالة محمد السادس". شكرا على كل مامضى حتى الآن, وشكرا على الأشياء الأخرى التي ستأتي. شكرا على المصالحة التاريخية بين الشعب وبين ماضيه الأليم. شكرا للإنصاف والمصالحة اللذان قدما درسا بليغا للعالم بأسره. شكرا للوصف الجميل الذي تحمله بكل افتخار "ملك الفقراء", والذي ترد به على المنتقدين الكثر الذين يقولون إن الحكام لايشعرون بآلام المحرومين. شكرا على لحظات التفاعل الإنسانية والبسيطة والرائعة مع مرضانا, مع فقرائنا, مع ذوي الاحتياجات الخاصة منا. شكرا على ماابتدأته منذ يوليوز 1999, وماتواصل القيام به اليوم, وماتنوي فعله للبلد في المقبلات من الأيام والشهور والسنوات. أجدها رغبة ملحة تجتاحني لقولها لأنني أعرف أن الآخرين لن يقولوها بهذا الشكل المباشر. نحن تعودنا على أن نحادث بعضنا بعضا في السر بالأشياء الجيدة والإيجابية, لكننا لانكتبها لقرائنا لئلا يقال عنا إننا "مداحون" أو مايشبه هذه المصطلحات التي تصح حين تكون وراءها الرغبة في شيء ما. أما حين تكون مجرد عبارة من مواطن باسم عدد كبير من مواطنيه يحسونها لكنهم يكادون يتهبيون قولها لأن "الموضة لاتسمح", فالأمر يضحي أكثر من مقبولة. شكرا على السنة الماضية الساخنة. وضعنا اليد على القلب ونحن نقول "والمغرب؟ والاستثناء المغربي؟ والملك؟ وقراره؟ وكل شيء؟". استجمعت الشجاعة السياسية التي عرفناها عنك, وخطبت يوم 9 مارس من سنة "إرحل" العجيبة تلك, وقلت للشعب "هاهي ديمقراطيتك بين يديك, إفعل بها ماتشاء". جاءت العدالة والتنمية إلى الحكم, جاءت معها أشياء كثيرة لم يكن الكثيرون يتوقعونها, مر المغرب بالهدوء الأكبر من الربيع العربي العاصف. خرج منتصرا يقدم نموذجه للعالم بأسره, ويقول لهم "نحن بدأنا الإصلاحات منذ 1999, ولم ننتظر سنة 2011". شكرا لشعبك معك. المغاربة أناس بسليقة جد نقية, يعرفون الصدق من الكذب, ويميزون بسرعة بين الضدين, لذلك وضعوك في القلب منذ اللحظة الأولى للمجيء, ورأوا في حيائك الجميل شعبة الإيمان الشهيرة التي حدثهم عنها رسول الإسلام الذي يعرفونه, وامتطوا معك القارب بالشعار الذي يحمل من المعاني الشيء الكثير "ملكنا واحد, محمد السادس", وقرروا أن إنقاذ البلد سيكون بك وبهم, أي سيكون بالجميع, وليس على حساب طر, ولفائدة طرف آخر مهما كان. شكرا على الاعتراف بالصعوبات الكبرى التي تنتظر البلد. من العسير أن تصلح ماتضرر لعقود عديدة في ظرف بضعة سنوات, لذلك لابد من المقاومة التي نعرفها, ولابد من سماع أصوات الراغبين في امتطاء كل شيء, وإن كانوا من ركاب الموجة السابقة, ولابد من تلقي الضربات من هنا ومن هناك. لكن ووسط كل هذا, تأتيك من بسطاء الناس, كلمة شكر تعرف يقينا حجم المهمة الملقاة على عاتقك, وتوقن أنك تريد حلا لكثير المشاكل الموجودة في البلد, وأن الأساسي هو أن الإصلاح انطلق, وأنك بعد الله أمل هذا البلد في أن يبقى موحدا لا ممزقا مثلما نرى الدول والبلدان الأخرى اليوم. هل من حاجة لكل هذا الكلام اليوم؟ نعم. هناك حاجة كبرى إسمها المغرب تفرضه, وتفرض علينا أن نقوله, فالقادمات ليست هينة بكل تأكيد, لكن الشعب وملكه قادران عليها دون أي ارتياب.

الجمعة، 27 يوليوز 2012

أنت حر..ولكن (+)

حرية التعبير "مضمونة" في المغرب. لا أدل على ذلك من قضية عبد الله نهاري الأخيرة. انتقلنا فجأة من الحديث عن الحرية إلى ضرورة الحديث عن إلزامية الدفاع عن حق من تحدث عن هاته الحرية في الحياة. المشهد خرافي فعلا, ويؤكد لنا أننا نحن الذين اعتقدنا أن حرية التعبير هي مسألة تقنية من الممكن أن نضمنها بدستور جديد, وبالاتفاق بيننا في الصالونات المكيفة والمغلقة على احترامها مهما كان الثمن, أخطأنا تماما في الاعتقاد, وأننا ملزمون بالبدء من جديد إذا ما أردنا فعلا احتراما ولو صغيرا لحرية التعبير هاته في البلد. حرية التعبير "مضمونة" في المغرب. مضمونة ضمانة مؤقتة. لم نعد بحاجة إلى قوانين زجرية غاية في القسوة, ولا إلى عقوبات حبسية من تلك التي يسميها أهل الصحافة على سبيل الدلع "السالبة للحريات" لكي نحد من حرية التعبير هاته. لا, المسألة "أرقى" اليوم بكثير. في القوانين المكتوبة كل شيء يقول إن الحرية مضمونة, لكن على سبيل التطبيق يكفي أن نطلق في الشارع العام رجلا يقول عن نفسه إنه داعية لكي يكفر ويأمر بالقتل, أو أن نفتح المساجد التي تخضع لرقابة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لكي تحدد خلال خطب الجمعة من المسلم الصالح ومن الذي يجب أن نؤلب عليه الرأي العام وجموع المصلين الذين يفترض أنهم أتوا إلى الجامع من أجل أمنهم الروحي والمزيد من الضمان له, لا من أجل سماع خطب الفتنة المبنية على سماع نصف الكلام, وعدم السماح لمن نوجه له الاتهام بأن يدافع عن نفسه, لاستحالة المهمة نهائيا, إذ كيف تتصورون أن يطوف المرء على كل مساجد المملكة لكي يوقع بيان الحقيقة الساخر هذا الممهور بالرغبة فقط في الحفاظ على انتمائه لهذا الدين قبل أن يجرده السادة الخطباء الأفاضل منه؟ منحتنا الضجة الكبرى التي وقعت مؤخرا في المغرب حول الحريات الفردية, وضمنها حقوق العزاب الجنسية وحقوق احترام الشعائر الدينية, وما إلى ذلك الفرصة لكي نشاهد أنفسنا في المرآة جيدا: مجتمعنا لايقبل حرية التعبير نهائيا, وهو مستعد في سبيل دفاعه عن حريته في عدم قبول هذه الحرية للوصول إلى الحد الأقصى المسموح به: أي التكفير والدعوة إلى القتل وتشويه السمعة, والاتهام بكل الأوصاف الممكن تصور وجودها على سطح الأرض. هل نلوم المجتمع على ذلك؟ طبعا نوجه له جزءا غير يسير من اللوم, لكننا نلوم أولا وقبل كل شيء نظامنا التعليمي الذي ينتج لنا هذه الطريقة في التفكير العاجزة تماما عن تصور وجود رأي مخالف لها, من الممكن أن يلجأ لتعبيرات قد تصدمها, لكنها ملزمة بقبولها مهما بلغت حدة هذه الصدمة, لأن هذا القبول هو الفرق في الختام بين الحضارة والجهل, بين التقدم وبين التخلف, بين المدنية التي نريد الوصول إليها وإلى جعلها الفيصل في حل كل خلافاتنا, وبين التشنج الذي لايمكنه في يوم من الأيام أن يكون حلا لأي شيء, لأنه مشكل وسيبقى مشكلا إلى أن نجد له حلا ذات زمن قد يكون قريبا, وقد يكون بعيدا. الدولة أيضا لها نصيب وافر من المسؤولية تجاه ضمان حرية التعبير هاته. من غير المعقول ولا المقبول أن نتيح لمن يريد ذلك أن ينهش لحم الناس وأعراضهم, فقط لأن هؤلاء الناس عبروا عن فكرة أو رأي لم يرقه. المجتمع الذي نصفه بالديمقراطي الحداثي الذي نريد بناءه في المغرب, والذي لانكل كل يوم من تكسير آذان مواطنينا بالقول إننا متشبثون به, هو مجتمع يضمن لكل التعبيرات حقها في الوجود. وعندما نرسب في أول امتحان بسيط, ونلمس أن هناك نوعا من القبول من طرف الدولة بهذا التضييق على حرية التعبير لأنه يسير في اتجاه مصلحتها, هي التي تريد أن تكون الشيئين معا: ضامنة حرية التعبير وضامنة عدم احترام حرية التعبير, حينها نفهم أن المسألة معقدة جدا ويلزمها غير قليل من الوقت لكي تجد لنفسها أو لكي نجد لها نحن _ إذا ما فهمنا مسؤوليتنا التاريخية تجاه بلدنا _ هذا الحل العجيب والمنشود. أخيرا وعلى سبيل المثال الذي يوضح المقال مثلما يقول النحويون, قال لي مسؤول خلال الأزمة الأخيرة التي خلقتها فتوى نهاري "حطيتونا فموقف محرج, حنا معا حقكم تقولو اللي بغيتو, ولكن يلا درنا لو شي حاجة غادي ينوض علينا الرأي العام, وغنتسماو موافقينكم على داكشي". بالنسبة لي هذه الجملة لوحدها تقول لنا الشيء الكثير عن وضعية حرية التعبير في المغرب, وعن المسافات التي يجب أن نقطعها من أجل الوصول إليها في يوم من الأيام, إذا ماكنا جادين طبعا في الوصول إلى هذا الوهم الجميل الذي يسير الدول المتحضرة حقا لا قولا فقط. (+) كلمة ألقيت الإثنين في ندوة "بيت الحكمة"عن حرية التعبير والتفكير في المغرب
لقاء في الرباط حول حرية التعبير من تنظيم بيت الحكمة يوم الإثنين 23 يوليوز 2012

الثلاثاء، 24 يوليوز 2012

بنكيران في إسرائيل؟

استطاع حزب العدالة والتنمية من خلال استضافته لناشط إسرائيلي خلال مؤتمره الأخير أن يجر المجتمع المغربي إلى نقاش التطبيع مع "العدو الإسرائيلي", أو "الكيان الصهيوني الغاصب" مثلما كانت تقول التسميات القديمة, وأن يطرح السؤال كبيرا: وماذا لو كان فعلا هذا هو الحل؟ اليوم لم يستضف حزب علماني أو تقدمي أو محسوب على التيار الآخر ناشطا إسرائيليا وفق مايمكن أن نصفه بأنه "تطبيع مرفوض" والسلام. لا. حزب يعتمد المرجعية الإسلامية, ويعتمد التصور الإخواني للصراع العربي الإسرائيلي الذي يقوم على أن الصراع بيننا وبين أبناء العمومة هو "صراع وجود لا حدود", وعلى أن النهاية ستكون في البحر من خلال "إلقاء كل الإسرائيليين هناك", وتحرير تراب فلسطين كل فلسطين من لا أدري إين إلى لا أدي أين, هو الذي قام بالخطوة هاته المرة. لنعترف أن الأمر يعد تطورا أساسيا وحاسما في تاريخ علاقات الأحزاب الإسلامية بدولة إسرائيل, خصوصا وأن نفس الناشط الإسرائيلي تعرض لحملة شعواء يوم حل ببلادنا ضيفا على معهد أماديوس من طرف نفس الأشخاص الذين استضافوه اليوم في مؤتمرهم, مايعني أن هناك تطورا في النظر إلى الموضوع ككل, لن تنفع كل بيانات الشجب والاستنكار, وكل البلاغات الصادرة عن مختلف الأجهزة التابعة للحزب وللحركة الدعوية المنخرطة ضمنه أو المنخرط ضمنها في حجبه ولا في حجب الواقع الجديد الذي يمثله. واقع يقول إن حزب رئيس الحكومة الذي استضاف أحد زعماء حماس في الخارج خالد مشعل, واستضاف أيضا الناشط الإسرائيلي يعتقد أن الحل لمشكلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن يكون إلا بجلوس الأطراف المتدخلة في اللعبة وأساسا الطرفين المعنيين بها وجها لوجه وبحثهما معا عن نهاية لائقة لصراع لايمكن أن يدوم إلى آخر الأيام. اليوم السؤال الذي ينبغي أن يطرح بشجاعة هو سؤال العلاقة مع إسرائيل دون الكليشيهات المصاحبة التي أكل عليها الدهر وشرب, ودون الاتهامات الجاهزة التي يستلها من العدم أناس لم يسبق لهم أن قدموا لفلسطين شيئا اللهم الكذب عليها, والمتاجرة باسمها, وبناء المسارات الشخصية غير المستحقة على ظهر شهدائها ودماء أبنائها. فلسطين اليوم, ونحن نرى الوضع الدولي غير المساعد إلا على قليل الأشياء, تكاد تندثر وسط زحمة الأخبار المتلاحقة. وقد مضى عليها ذلك الزمن الذي كانت تتصدر فيه عناوين النشرات الإخبارية في كل الدول العربية, وأصبحت اليوم عنوانا لاينبغي بالضرورة أن يمر يوميا لأن عناوين أخرى, في مقدمتها تصفية الشعوب العربية لوضعها الخاص بها, أصبحت تسابقها في هذه الصدارة بل وتنتزعها منها. اليوم لا أحد ينتبه لشأن فلسطين فعلا إلا الفلسطينيون, والتيارات الدينية وغير الدينية التي نجحت في تقسيم السلطة الوطنية الفلسطينية, وتقسيم فلسطين قبل أن تتحرر, إلى دويلات عدة, تحكم حماس غزة منها, وتحكم بقايا منظمة التحرير الضفة, ويحكم حزب التحرير الإسلامي بعض أحيائها, وتحكم الجماعة الإسلامية أماكن أخرى, ويحكم من لا نعرفهم مالانعرفهم من بقعها المتلاشية, (هذه التيارات) تعرف هي الأولى أن الوقت اليوم هو للتفاوض حول ماتبقى من فلسطين قبل أن تنتهي أصلا هذه الحكاية, ولا يعود ممكنا إلا القبول بتفريق هذا الشعب المسكين على البلدان التي تكون مستعدة لاستقبالهه مثلما وقع في سنوات فارطة. نأتي الآن إلى الشأن المغربي واستضافة عبد الإله بنكيران وحزبه للناشط الإسرائيلي الشهير. المعتقد اليوم هو أن الحركة في حد ذاتها شجاعة سياسية تحسب للعدالة والتنمية, ولن أصدق نهائيا أن الأمر لم يكن مقصودا, بل أعتقد أنه كان حركة سياسية واضحة, وموجهة بعناية إلى كل من يهمه الأمر, والتبئير عليها إعلاميا واستلالها من بين زحمة المؤتمر وفعالياته لكي تصبح العنوان الأبرز للقاء البيجيديين ببعضهم, كان فعلا مرادا وصلت رسالته ومعناه بشكل واضح. وأولى أسطر هاته الرسالة تقول إن العدالة والتنمية اليوم حزب دولة, يعرف جيدا الرهانات الموضوعة على عاتقه, ويعرف أنه ملزم بالكثير من التوافقات التي تسير الشأن المغربي إن داخليا أو خارجيا. عبد الإله اليوم, وهو في موقع المسؤولية, يعلم أفضل من غيره أن الكثير من الأشياء تسير مع بعضها البعض, وأن كثيرا من السند الدولي الذي يلقاه المغرب لقضاياه كلها من السياسي فيها إلى الاقتصادي, هو سند يأتي من الاعتدال الذي ميز المغرب دائما في مختلف القضايا العالمية, وفي مقدمها قضية الصراع في الشرق الأوسط. الحسن الثاني رحمة الله عليه كان سباقا في المجال, ولو أنصت له العرب يوما لحلت قضية فلسطين من زمان. ترانا ننتظر يوما زيارة رسمية لعبد الإله بنكيران إلى أراضي إسرائيل؟

الاثنين، 16 يوليوز 2012

اعتذار عام

أعتذر للشعب المغربي الهمام لأنني جرحت مشاعره. أعتر لأنني دافعت عن الحرية وقلت بالحرف "أحترم حرية أمي وأختي وابنتي في أن يفعلن ما يلائم حريتهن". أسحب هذه الجملة فورا وأتبنى جملة أخرى لكي يرضى الشعب العظيم "أنا لا أحترم حرية أمي وإبنتي وأختي، ومستعد لكي أرفع في وجوههن العصا والسيف بل وربما المسدس والبندقية إذا فعلن شيئا لا يروق لسيادتي". أعتذر لأنني قلت في الحوار الشهير مع قناة "الميادين" إن "الحرية حل وليست مشكلا ولن تكون أبدا". العكس هو الحقيقي، الحرية لاتصلح لنا. نحن عباد وعبيد ومستعبدون، ومن الأفضل لنا أن نبقى هكذا، ولا يجب نهائيا أن نحلم بيوم نتحرر فيه من أي شيء. ما الذي يمكن أن تضيفه لنا هذه الحرية اللعينة في نهاية المطاف؟ "والو، ناضا، نييت، حتى حاجة". لذلك لا حاجة لنا بها قطعا. لتذهب الحرية إلى الجحيم،وطبعا ليذهب وراءها إلى نفس المكان كل المطالبين بها. أعتذر لشعب الفيسبوك الخالد اكتشفت قدرة كبرى على السباب والشتم عند أغلبية المسلمين الذين انتقدوا تصريحي في قناة الميادين. رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام الذي أعرفه أنا يقول في الحديث الصحيح : "ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا البذيء". لكن المسلمين الغيورين على دينهم أو الذين يدعون ذلك لم يتركوا كلمة واحدة من ألفاظ الطعن واللعن والفحش من القول لم يستعملوها معي، لذلك مرة أخرى أعتذر لكل هؤلاء الطعانين اللعانين الفاحشين البذيئين. أنا أخطأت ومن اعترف بذنبه فلاذنب عليه. أعتذر لسي عبد الله نهاري. من حق الرجل أن يكذب علي مثلما شاء، ومن حقه أن يصفني بالديوث، بل من حقه أن يفتي بقتلي. من أنا لكي أحتج على قرار مثل هذا؟ هذا القرار نزل من علم من أعلام الفقه والدين في البلد، الحبر الفهامة والعالم العلامة سيدي عبد الله نهاري رضي الله عنه وأرضاه، فكيف أجرؤ على احتجاج أو على ماشابه من إبداء الضيق والتبرم؟ الأليق بي هو أن أنفذ القراربيدي أي أن أنتحر وأدخل الجنة لأنني بذلك سأكون قد نفذت فتوى عبد الله ومن معه من مشايخ السلفية الأجلاء، ورغم أنني أعلم بأن الانتحار يذهب بصاحبه مباشرة إلى جهنم، فإن الشق الآخر من العملية أي تنفيذ الحد سيذهب بي إلى الجنة،والله أعلم على كل حال. أعتذر لكل من وصفتهم بأنهم منافقون. أنا أسحب هذه الكلمة. نحن لسنا شعبا منافقا. نحن شعب معصوم من الخطأ، لا نرتكب أي معصية. نصلي الأوقات في زمنها، لا نأتي أي منكر من القول أو الفعل. لانشرب خمرا، ولا ندخن مخدرات، ولا نكذب ولا نسرق، ولانزني ولا نفعل الكثير من الفواحش التي نصفها في السر بأنها "لذيذة"، وفي العلن بأنها معاصي خطيرة. نحن باختصار شعب ملائكي، ولا أريد أن أقول بأننا "ّ"شعب من الملائكة" لئلا يأتي من يصفنا بالتجديف والمساس بهاته المخلوقات النورانية وتشبيه أنفسنا به. أعتذر لكل من يرى أنني يجب أن أعتذر إليه. أعتذر أساسا لمن لم يشاهد الفيديو الأول للميادين لكنه اكتفى بالسب واللعن. أعتذر لمن لم يشاهد لا الفيديو الأول ولا الفيديو الثاني، لكنه أيضا اكتفى بالسب. أعتذر لمن شاهد ولم يفهم حرفا واحدا مما قلته لكنه أيضا التحق بكوكبة السب، وأعتذر لمن شاهد وفهم لكنه أصر لنية خبيثة دفينة فيه على التحوير, وعلى المضي قدما نحو السب. أنا لا ألوم المحورين للكلام. أنا ألومني لأنني تكلمت في بلد قرر أن يمنع الكلام. أعتذر للأمهات والأخوات والخالات والعمات والبنات والصبيات والجدات والحفيدات. أعتذر لكل نون النسوة المغربيات. أتذكر معهن عبارة سعيد صالح الشهيرة اليوم "الشرف يا بنت…الشرف". أبتسم بمرارة لأن ماوقع كاد يفقدني الابتسام، وأتذكر فقط أنني ملزم بالمزيد من الاعتذار. أعتذر لكل من انتهى من مضاجعة صديقته في الحرام وأتى إلى الفيسبوك لكي يسبني. أعتذر لكل من شرب قطرة أو قطرتين من الخمر، وبدوت له في القنينة طريقة لمصالحة ضميره وغسل بعض الذنوب. وأعتذرلكل من يعرف أنه مليء بالكثير من السيئات وأنه من أجل إقناع نفسه بأنه صالح "مائة في المائة" يجب أن يسب هذا الشخص الذي قال كل هذا الكلام. أعتذر حتى لمن لايستحق اعتذار. أنا أذنبت بالفعل وأخطأت. اعتقدت أنني أتحدث في بلد يسمح فيه بالكلام، واعتقدت أن الحرية لاتخيف فعلا إلا المستعبدين، واعتقدت أنه من الممكن أن نصارح بعضنا البعض بقليل الحقائق التي نعرفها جميعا. لكنني كنت واهما. نحن نحب هذا النفاق ونعيش فيه، وسنواصل العيش فيه إلى ماشاء الله، لذلك - معشر المعصومين ومعشر المعصومات أيضا - "سمحوا ليا بزاف،والله مانعاود". تراكم تقبلون الاستغفار مثلما يقبله رب العباد؟ أم أنني ملزم بصياغة ثانية تكون أكثر وضوحا أيها السادة "الأفاضل الأتقياء الأنقياء"؟

الخميس، 12 يوليوز 2012

غبار بن لادن

المختار لغزيوي إلى غبار بن لادن في المغرب. تعبدون أسامة، قتيلكم، ونعبد الله. تعبدون القاعدة وتطرفها، وارتكاباتها التي لا تنتهي، ونعبد الواحد القهار. تعبدون التطرف وانحرافاته، وتبحثون في القواميس القديمة عما يسند كلام الخوارج الذين يتبعونكم، ونعبد البارئ جل وعلا. تفهمون الإسلام عبارة عن قتل وذبح وترويع للآمنين، وفتاوى تطلقونها عن الجهل كله، ونفهمه دينا سمحا أرسله رب العزة رحمة للعالمين، لا نقمة عليهم مثلما تفعلون أنتم اليوم والتضييق يذهب بكم كل المذاهب التي لا مخرج منها. لاتفقهون في غير لغة إخافة الناس، لاتستطيعون الابتسام، ولا تعرفون من أين تبدأ الحياة، بل فقط أين تنتهي. ونفهم الدين دعوة صريحة من خالق الحياة الذي قدسها للجميع أن مزيدا من التقديس. ترتعدون خوفا ورعبا وهلعا من كل صارخ بحقه في الحياة لأنكم ميتون منذ القديم، منذ أن قيل لكم في الحجرات المغلقة إن الإسلام هو إسلامكم، ونعيش الحياة بالطول والعرض، مقتنعين بأن رحمته _ جل وعلا _ وسعت كل شيء، وأنه _ سبحانه وتعالى _ قال لنا نحن معشر المسرفين على أنفسهم ألا نقنط من رحمته لأنه يغفر الذنوب جميعا عكسكم تماما، ياخوارج العصر الجديد. تستلون الكلم من مواضع غير مواضعه، تحرفونه، وتضيفون إليه من عنديات من شرحه لكم بهذا الشكل البئيس. ترومون قتلنا جميعا لكي تحيوا أنتم. ونضع الكلام المقدس الذي أتانا من الله سبحانه وتعالى في المكان اللائق به، في المسجد، عنوانا لديننا، ولمعاملاتنا مع بعضنا، ونفهم المساحات الكبرى التي تركها لنا ربنا ونبينا صلى الله عليه وسلم من أجل الاجتهاد، ثم الاجتهاد، ثم الاجتهاد، لأن الإسلام أتى إلى أناس بعقلهم، يعرفون معنى التفكير، عكسكم أنتم تماما، يامن لاتعرفون إلا التكفير. تحسون بأنفسكم اليوم أقوياء، وقد دانت الأمور في غير البلاد إلى من هم على شاكلتكم، وتعتقدون أن ساعتكم قد دنت، لذلك تخرجون اليوم من الجحور، تضربون بكل المراجعات عرض الحائط، وتعودون إلى هوايتكم البئيسة المفضلة: تكفير المسلمين بغير وجه حق. ونحس بأنفسنا أقوى منكم بكثير، لأن عبارة الاستثناء المغربي التي نقولها نؤمن بها حق الإيمان، ونعرف أن هذا البلد لن يسقط مثلما سقطت البلدان الأخرى بين يدي تطرفكم وجهلكم. تبتسمون في الرحلات المشبوهة نحو الوجهات إياها وأنتم تمنون أنفسكم بيوم يأتي فيه على المغرب زمن يصبح هو الآخر رهينة تطرفكم، وقتلكم، وشريعة الغاب _ لاشريعة ربنا معاذ الله _ التي تفعل فعلها في كل مكان من تابوت العرب والمسلمين اليوم. ونبستم أكثر منكم، ونحن نؤمن بعد الله سبحانه وبعد النبي الكريم أفضل الصلوات عليه، بالبلد العظيم الذي نحيا تحت ظله. نعرفه قادرا على حمايتنا منكم، ومن جهلكم، ومن تعسفكم ومن غلوكم، ومن كل الترهات. تشهرون في وجهنا اليوم فتاوى القتل، ونشهر في وجوهكم كلام العقل. تكذبون، وتزورون، وتلفقون، ونقول الحقيقة البسيطة العارية، لذلك نغلبكم. تريدون احتكار الدين، ولن نتركه لكم. نحن جئنا فرضعناه منذ الصغر من أثداء الحرائر اللائي ربيننا، وسمعناه أذانا ملء الإصاخة، مباشرة بعد الميلاد، مرتلا بالقراءة المغربية الصميم، لا قراءة البشتون، وغيرهم من قوم الجهالة العمياء، لا قراءة البترودولار يوم كان يمول أسيادكم في أفغانستان، لا قراءة البنا أو قطب أو بقية الإخوان. سمعناه منذ البدء وحفظناه منذ المجيء، قراءة مغربية صميما، تشعرك بالأمان وبالرغبة في كل الحياة، عكس قراءتكم القاتلة التي لاتشعر المرء إلا بالمزيد من الإرهاب. تعتقدون أنكم كلما تكالبتم أكثر كلما كنتم أقوى، ونعتقد أن كل مغربية وكل مغربي قادران لوحدهما على أن يواجها الفلول منكم مهما اختفيتم، ومهما هيأتم لنا من القوة التي تفهمونها خطأ لكي ترهبوا بها من ليس عدوا لله، لكنه قد يكون عدوكم. تدعون شيئا وتفعلون شيئا آخر. تقولون إنكم تقبلون المجتمع، لكنكم تكفرونه. تتخيلون أنفسكم أولياء للأمر، وتصدرون الأحكام والفتاوى. ونتصوركم خوارج عن الطريق، لم يعرفوا إلى أين هم سائرون، فهداهم الجهل إلى أن يضعوا على الرؤوس منا سيوف الإخافة يوميا لكي يحسوا ببعض الوجود، رغم أنكم في نهاية الأمر بعيدون تماما عن هذا الوجود، وعن رب هذا الوجود. >أيا غبار بن لادن، أيا بقية الجثة وحراسها، أتعتقدون حقا أنكم قادرون على إخافة المغرب؟ بئس الاعتقاد الصغير هو.< هذا البلد أكبر منكم بكثير. هذا البلد أعظم من أن يعبد غبار بن لادن. هذا البلد يعبد الواحد القهار، وحده دون من سواه. سيحوا في الأرض، إبحثوا لكم عن بلد آخر، خائف رعديد، يكون قابلا للشعور بالرعب منكم. أما هنا " ياغبار بن لادن" فأنتم لا تخيفون حتى أصغر طفل بيننا. سالينا الهضرة.

الثلاثاء، 17 أبريل 2012

رسالة إلى كل من يهمه الأمر

مجرمو الشغب
أشياء كثيرة يجب أن تقال اليوم قبل الغد بخصوص آفة الشغب التي أصبحت تجتاح ملاعبنا. هي أشياء صريحة ربما أكثر من الحد المسموح به, لكنها ضرورية, وهي تنحصر في الأمور التالية:
أولا جامعة كرة القدم هي جامعة فاقدة للشرعية, ورئيسها علي الفاسي الفهري لا يمتلك أي مسوغ قانوني لكي يكون على رأسها مايجعله في وضعية ضعف باستمرار أمام قادة الجامعة الفعليين, وهم أناس يتوزعون بين الأعضاء الجامعيين أو بين منخرطين في نوادي مغربية أو رؤساء لها يتحكمون بالفعل في دواليب الكرة المحلية ويفرضون عدم معاقبة الأندية التي تتورط جماهيرها في ظاهرة الشغب, بل يتعهدون للأنصار ألا أحد يستطيع المساس بهم, وحتى لو وصلوا إلى القضاء "فسيتم العمل من أجل إطلاق سراحهم".
الرئيس يعرف هذا الأمر جيدا, لكنه وتفاديا لمزيد من المواجهات التي قد تضعفه أكثر لذلك يفضل ترك "الجمل باركا" إلى أن تفاقمت الأمور ووصلت اليوم حدا أخطر من الكرة بكثير.
ثانيا الأمن المغربي يتحمل مسؤولية كبرى فيما يقع داخل الملاعب. لايعقل أن يفرض القانون عدم دخول القاصرين إلى الملعب, وألا يمتلئ الملعب كل مرة إلا بالقاصرين. لايمكن أن يمنع القانون إدخال الشهب إلى الميادين, وأن نرى في كل عمليات "الكراكاج" التي يقوم بها الإلترات نيرانا فعلية تشتعل في كل مكان, ولا يعقل أن يمثل الأمن باستمرار دور من تفاجئه كميات الأسلحة البيضاء والسيوف والعصي التي يتم ضبطها باستمرار بعد كل عمليات شغب جديدة في الملاعب, ولا يمكن ختاما أن تكون كمية التذاكر التي تباع كل مرة أقل بكثير من عدد من يدخلون إلى الميدان باستمرار, وأن لانجد أبدا التبرير أو التفسير الفعلي لهذا التناقض بين العدد المعلن والعدد الحقيقي رغم أن الكل يعرف كيف تتم عملية "التهريب الجماهيري" إلى "التيرانات باستمرار.
ثالثا الإعلام الرياضي. هناك كارثة فعلية تهدد البلد اليوم إسمها التعامل الجاهل وأحيانا المتواطئ لجزء كبير من الإعلام الرياضي مع الكثير مما يقع في المشهد المحلي. أغلبية غالبة تلعب لعبة خطيرة للغاية قوامها "التفاهم" مع أندية بعينها من أجل الترويج لها ولكل ماتريده هي وأنصارها في وسائل الإعلام. نعم, هناك زملاء نزهاء. نعم, هناك أناس يرفضون الانخراط في لعبة البيع والشراء المتسخة هاته. نعم, هناك من يخطئ بحسن نية. لكن في المقابل هناك مجرمون فعليون في المشهد الصحافي الرياضي يتلقون مقابل الدفاع الظالم والترويج الكاذب لكثير من الفضائح, وقد حان الوقت فعلا من أجل أن يفضح كل من موقعه وانطلاقا مما يعرف ويسمع ويشاهد هؤلاء المجرمين الذين يلعبون لعبة شهود الزور بشكل فاضح للغاية, ويعتقدون أنهم ينجون بفعلتهم هاته, دون أن يدور في خلدهم ولو للحظة واحدة أنهم يورطون البلد في أشياء إذا ما تطورت ستصل إلى عواقب خطيرة لا قدر الله.
رابعا, بعض الجماهير. وصلنا اليوم مع خطورة ما رأيناه وعشناه غير مامرة في غير ماملعب إلى المرحلة التي تحتم علينا وصف بعض الجماهير بالمجرمة, وإلى الدرجة التي تجعلنا نطالب ليس فقط بتوفير الحماية منها للناس الآمنين, ولكن بضرورة البحث عنها في منازلها والأماكن التي ترتادها من أجل إلقاء القبض عليها ومتابعتها على كل ما اقترفته في الملاعب المغربية المختلفة. هناك أسماء معروفة في كل مدينة مغربية لمشاغبين خطرين, يحولون حياة الناس إلى جحيم كل سبت أو أحد بمناسبة كل لقاء, والأمن يعرف هؤلاء, ومسؤولو الأندية يعرفون أسماء هؤلاء, وروابط المشجعين أو الألترات, تعرف جيدا أسماء هؤلاء, ولا وجود لأي مبرر نهائيا لبقاء هؤلاء المجرمين خارج أسوار السجن, لأن هذا المكان هو مكانهم الطبيعي والوحيد الذي يمكن أن يقبل بهم دون أي نقاش.
خامسا, الحكومة المغربية, وفي مقدمتها وزارة الشباب والرياضة, التي يشغل وزيرها باله بالدفاع عن القمار وإشهاراته في التلفزيون أكثر مما يشغل باله بالدفاع عن وجود مؤسسات ديمقراطية فعلية في البلد تسير جامعات الكرة, وتعطي لمسيريها قوة شخصية مستمدة من قوة وشرعية تواجدهم على رأس تلك الجامعات. لم أفهم ولا أفهم ولن أفهم أبدا سر صمت وزير الرياضة عن الجرائم التي تقع في ميدان تابع نظريا لسلطته, وسبب عدم قدرته على بلورة موقف حازم قبل أن تقع الفأس في الرأس أكثر مما وقعت, وقبل أن نتورط في أحداث شبيهة بأحداث بورسعيد في مصر, وهو أمر ليس مستبعدا إذا ما نظرنا إلى الوتيرة التي تسير بها الأمور اليوم في ملاعبنا. وللكلام صلة لاحقا...

الأربعاء، 4 أبريل 2012

الآن والأمس وغدا

تتفرق بنا السبل, ثم نلتقي, ثم نفترق ونعاود الالتقاء. أول أمس ذهبنا لنشهد ميلاد مجلة "الآن" فوجدتني داخل "الأحداث المغربية" من جديد. رأيت مصطفى, وسي محمد, والمحجوب وادريس. رأيت أعمارا من الحياة تربت في هذا المكان, عاشت فيه اكتشافها الأول للصحافة, وتعلمت فيه الأحرف الأولى لاحترام قيم العيش قبل احترام أي شيء آخر. كان الزميل يوسف ججيلي يعلن ميلاد مجلته الجديدة بتأثر شديد, للحظة إنسانية لطالما انتظرها وجاءته تتويجا لمسار جديد يعلن مولد أشياء أخرى قادمة إلى مشهد صحفي تم تقسيمه في يوم من الأيام لكي لايلد إلا أسماء معينة, ولكي يصاب بالعقم بعدها.
وبين الكلمات المتحمسة للانطلاق, الحالمة بالنجاح, والراغبة في المغامرة, وجد يوسف الكلمات المناسبة لكي يقول "ستلاحظون أن عددا كبيرا من المغامرين معي في هذه التجربة الجديدة هم أبناء الأحداث المغربية التي تعد مدرسة حقيقية في مجال الصحافة الناطقة باللغة العربية في بلادنا". لم أستطع شكر يوسف على الكلام الطيب بالقول, لكنني شكرته بنظرات العين, ووجدت الآخرين, أبناء هذه الدار الذين خرجوا منها يوما يفعلون الأمر ذاته. كلهم قالوا لهم في سريرة سريرتهم شكرا.
بدءا من مصطفى أزوكاح, هذا الطفل الكبير, الممتلئ قلبا يضج بالحياة, والغاضب أحيانا لأبسط الأسباب, الفرح أيضا لأبسطها, المتمسك بأنه لن ينسى أبدا الأيام التي عاشها في هذا المكان, مرورا بادريس العنبري إبن الدار المتشبث بالوفاء لها, القائل لكل من يريد سماعه إن "الأحداث وحدها تعرف كيف تفعل الكثير من الأشياء", مرورا أيضا بالمحجوب فريات, رجل لايعبر عن مشاعره إلا قليلا, لكنه بين لحظة بلوز وأخرى, يبوح بكل شيء, ويغرق في حاسوبه أو في هاتفه النقال لكي يقول عبره ما لايقوله عادة من عابر الكلام, مرورا أيضا بمحمد سقيم المسؤول اليوم في قناة "الرياضية" والذي حضر يوم الإثنين لمساندة زملائه السابقين في الأحداث المغربية, والذين يجد لهم باستمرار النكتة القادرة على النفاذ حتى العمق, من كل الذكريات التي عبرت المكان ذات زمان.
هل ذهبنا يوم الإثنين لكي نحتفل بميلاد "الآن"؟ نعم, لكننا وجدنا أنفسنا أسرى الذكريات التي مرت يوما, وأسرى ترديد الحكايات الطريفة التي عشناها ساعة فساعة, ودقيقة فدقيقة, وثانية فثانية.
جمعتنا التجربة أول مرة وأغلبنا لم يمارس الصحافة يوما. أتينا إلى هذه المدرسة وتعلمنا فيها كل شيء. صنعنا أسماءنا من العدم, لذلك ندين لها حتى آخر الأيام بكل الفضل. لحسن الحظ أن أغلبية من مروا من هنا كانوا من الأوفياء. أناسا يخشون أن ينسوا يوما من مد لهم يد العون الأولى في بادئ اللحظات, لذلك سيجمع بيننا الامتنان لهذه التجربة كل القواسم, وسيظل خيطنا الرابط الذي به نتعرف على بعضنا البعض كلما هلت علينا لحظة جديدة للالتقاء.
حتى تلك اللحظة التي خرج فيها بعضنا إلى تجارب أخرى _ لأسباب كثيرة ليس هنا أوان تبيانها _ كان كل مرة بالنقيض, بالضد يعرف قيمة الدار التي تركها في بياضة, غير بعيد عن لاجيروند, وفي المنعطف الأول قبالة القصر الملكي بالبيضاء. هنا التقينا أول مرة. أتينا من كل مكان, من الأحياء الشعبية في أغلبيتنا إلى مجال فهمنا أننا قادرون على صياغته وفق تصور آخر غير التصور السائد للأشياء. كتبنا وأصبنا وكتبنا وأخطأنا, لكننا أساسا صنعنا جزءا من تاريخ الصحافة في هذا لابلد, لايمكن إلا أن يبقى لذاكرتها وذكراها إلى آخر الأيام.
قال عنا الكثيرون كل الأشياء. سمعنا ولم نطع, قلنا مع أنفسنا مرارا وتكرارا إن الزمن كشاف, وإنه وحده سينصف الكل في الختام. سيقول من ومن, سيحدد العلامات, وسيؤكد الفوارق, وسيعيد إلى كل ذي حق حقه, وكذلك كان. اليوم يبدو من الصيرفي في المشهد الصحفي الراغب في الربح المادي فقط, يبدو أيضا المتلون الذي يبيع كل يوم جلده لمن يدفع أكثر. يبدو غير المهني المتطفل على كل شيء, ويبدو القادر على الكتابة عن الشيء ونقيضه بشكل يدفع فعلا إلى الإعجاب حد الذعر. وتبدو التجربة في كامل بهائها قادرة على الاصطفاف لوحدها شيئا للتاريخ فعلا. في لحظة من اللحظات استدعى محمد مؤيد نفسه إلى الحديث ليلة الإثنين. أتى الراحل الكبير لكي نتذكر به تلك النظرات التي كانت تتحدث أفضل من كل الكلمات. تحدثنا عن الجميع, وكدنا ننسى أننا هنا من أجل "الآن" ولسنا هنا من أجل تذكر ماكان.
وأنا أغادر الطابق الرابع من إقامة بغداد حيث سيصنع يوسف وسامي ونادية وفؤاد وخالد رفقة البقية تاريخهم الجديد مع مغامرتهم الصحفية الجميلة التي تبدأ بالكاد, كانت الأسماء تتراءى لي من كل مكان, وكنت عاجزا عن إيقاف سيل الذكريات إذ عبر مني كل المسام. ترحمت على خالد سنينة. تذكرتني جالسا قربه في اجتماع شهير في الطابق الثالث وهو يجد صعوبة في إيقاف ضحكته. تذكرت كل شيء, دون أي استثناء, كل شيء, وأحسستني _ ربما للمرة الأولى منذ زمن بعيد _ محظوظا بالفعل أنني كنت جزءا من هذا التاريخ المجيد.
شكرت الليلة كلها, وابتسمت, بشجن وميلانكوليا حقيقيين, لكنني ابتسمت...
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
يجب أن نقرأ خبر طرد فرنسا لمجموعة من الأئمة من ترابها القراءة الصحيحة فعلا. بعض هؤلاء سامحهم الله تجاه مايفعلونه بالدين الحنيف, أًبحوا متخصصين في تقديم أسوء التصورات عن الإسلام, وأضحى فهمهم الرديء والخاطئ لديننا متسببا في الكوارث تلو الكوارث للمسلمين العاديين, وللجاليات المسلمة في بلد المهجر, وأصبحوا _ عوض أن يكونوا أداة رحمة بين الناس _ أدوات عذاب فعلية ترعب وترهب وتمنع الغرباء والأجانب من الاقتراب من الإسلام الاقتراب الجميل الذي صنع علاقة هذا الدين بالبعيدين عنه على امتداد التاريخ.
من حق فرنسا أن تطرد من تراهم مهددين لقيم الجمهورية لديها, ومن حقنا نحن أن نحزن, فقد صرنا متخصصين في إرهاب الناس وإرعابهم حتى في قلب دولهم.
دمنا لهذا التخلف الذي أًدمننا وأدمناه

الاثنين، 2 أبريل 2012

دنيا والأمل

يجلس الرجل القرفصاء فوق المشهد الإعلامي المغربي. يقضي حاجته يوميا على الرؤوس ويمضي هو الذي يعد الرمز الأكبر للريع النقابي في البلد. سألت نفسي طويلا "زعما يستحق نكتب عليه؟". جاءني الجواب سريعا على لسان عدد كبير من الزملاء "والله مايستحق, تافه ديال الخلا وصافي". التزمت الصمت الذي أمرني به الزملاء, وقررت الصفح عن الموضوع كله وانتظار الآتي من الرداءات ليقيني أن الحياة إن هي إلا سلسلة منها في بلد مثل البلد, ومع أناس مثل الناس.
بإحساس ممض بالهباء, وبغير قليل من الحزن التقطت كل ما قيل عن الموضوع, وسادتني حالة يأسي الشهيرة التي أعرفها لوحدي, تلك التي تحبطني من نفسي ومن المحيطين بي, ومن كل شيء, وتجعلني أكفر في لحظة واحدة بكل يقينياتي التي أمضيت الزمن والوقت كله أبنيها "شوية بشوية", لكن دنيا أخرجتني من حالة الإحباط هاته. شابة في مقتبل العمر, تملك صوتا أخاذا وجميلا سلب العرب كلهم, وذكرهم أننا البلد الذي أنجب عزيزة جلال ذات يوم, تلك التي أرعبت المصريين على عرش أم كلثوم, وجعلتهم يتساءلون "ياكما غاديين يديروها المغاربة هاد المرة؟". عزيزة اختارت إنهاء مسارها ذات يوم بشكل مفاجئ. تزوجت وأجلست صوتها لكبير في البيت, وبقي المغاربة على ظمئهم يتظرون صوتا كبيرا جديدا يحملهم إلى مقدمة المشهد الغنائي الإقليمي, فكانت دنيا.
يومي الخميس والجمعة زارتنا الشابة البيضاوية المتألقة. رأيت في التفاف الزملاء حولها من كل الأقسام في الجريدة, ورغبتهم في تخليد مرورها من هذا المكان رغبة منهم في تخليد لحظة فخرهم بصوت مغربي أدهش الكبار القابعين في عقدة تفوقهم الشرقية علينا. جاءت دنيا إلى آراب أيدول وخلقت لهم مشكلا كبيرا "واش نربحو مغربية زعما؟". كل الإجابات المنطقية كانت تقول "نعم, خاصها تربح". الشابة تؤدي المغربي بتألق, تؤدي الشرقي بروعة, تؤدي الخليجي بإتقان, ولو كانت لجنة تحكيم آراب أيدول ممتلكة لناصية اللغات قليلا وطلبت من دنيا أن تغني الفرنسي أو الإنجليزي أو الإسباني لفعلتها, شأنها في ذلك شأن شعب "سبع لسون" المسمى الشعب المغربي.
بالمقابل كان كل منافسيها, بمن فيهم الفتاة المصرية التي وصلت معها إلى النهاية, عاجزين عن أداء كل هذا التنوع الغنائي, وكانوا مقتصرين _ كل حسب البلد الذي أتى منه _ على أداء اللون الذي يتحدرون منه. بهذا المعنى, وبهذه النتيجة كان اللقب لصالح دنيا بامتياز, وكانت هي النجمة التي أعلن عنها البرنامج دون أدنى نقاش.
كارمين فازت باللقب, ودنيا فازت بإعلان نفسها نجمة قادمة بقوة إلى المشهد الغنائي المغربي. لذلك كان زملاؤنا في الأقسام المختلفة للجريدة مصرين على احتضانها, على الاحتفال رفقتها بعيد ميلادها يومين قبل قدومه, وملحين على أن يظهروا لها الفائز الحقيقي في هاته المسابقة التي قدمت لنا هاته الهدية التي كانت بيننا لسنوات ولم نكتشفها إلا بعد أن لمحها الأجنبي وحملها إليه لكي يتقن طريقة إظهار جواهرنا المحلية التي ندفنها هنا مقابل منح الواجهة للأدعياء, للرديئين, للقادرين على إبداء وقاحة القبح في وجه الجميع.
دنيا والرجل, وجدت نفسي فجأة مساء الجمعة وقد تغير مني "المورال" بشكل كامل. أخرجتني الشابة المغربية اللطيفة من حالة يأسي بالبلد التي أدخلني فيها ذلك الرديء, وجعلتني أقول "لحسن الحظ أن المتناقضات في البلد موجودة, وأن كم الرداءة المسيطر لايمنع من وجود بعض اللفتات الجميلة والبراقة التي تعيد لنا إيماننا بالعمل من أجل مغرب يتغلب فيه الجمال على القبح. الحب على الحقد, الطيبوبة على الشر الكامن في القلوب, الإبداع على الإدعاء واحتلال المناصب دون وجه حق".
وجدتني أيضا أقول أن لا حق لنا في الكفر ببلدنا مهما ضاقت علينا, ومهما كثر الرديئون حولنا. البلد المسكين في حل من رداءات هؤلاء, وهم "كيزاوك فينا النهار وماطال" أن خلصوني من هؤلاء, أن مدوا لي يد العون لكي يذهب المزمنون لحال سبيلهم, أن يخلوا المكان للأجيال الجديدة, أن يعطونا ويعطوه الإحساس أنه ليس عاقرا إلى هذا الحد الذي يجعل المزمنين في كل الميادين يصرون على أنهم وحدهم ""كيضويو البلاد", علما أنهم فعلا وحدهم يطفئون علينا يوميا مصباحا جديدا لكي يبقى الظلام مسيطرا, لعلمهم أنهم غير قادرين على العيش إلا فيه.
لاحق لنا في التسليم, ولا بديل لدينا عن خوض المعركة مع الرداء ومع رموزها في كل المجالات. سنسمع كلاما كثيرا سيئا. سنجدد أنفسنا في مواقع لانحسد عليها, لكن علينا أن نتحمل. البلد يطلب منا هذا, ودورته التاريخية تحتم علينا _ كل في مجاله أكررها لكي تفهم جيدا _ أن يصرخ في وجه رديئي ذلك الميدان "ديكاجيو, ضركو كمامركم". الناس ملت رؤية الحقد المطل من سحناتكم الكئيبة.
بالمقابل, وهذا هو درس زيارة دنيا يومي الخميس والجمعة لنا, البلد بحاجة لإشراقاته الجميلة التي يصنعها الوافدون الجدد. هؤلاء القادمون من أعماق أعماق المغرب, من الحي المحمدي العريق بالنسبة لدنيا, ومن أحياء فقيرة كثيرة تشبهه على امتداد الوطن ككل, سيمنحوننا دائما الإحساس بالخلود والبقاء, والإحساس بالقدرة على مقاومة الرداءة مهما تجبرت أو استطالت أو حاولت تصوير نفسها قوية.
لهم الشكر على مدنا بالقدرة مجددا على مقاومة الجالسين القرفصاء, يقضون حاجاتهم الوسخة يوميا على رؤوسنا دون أدنى خجل أو حياء.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
فهم إخوان مصر أن اللحظة مناسبة للوصول إلى حكم أرض الكنانة, وتراجعوا دون أدنى إشكال عن اتفاقهم مع كل الأطراف التي كانوا معها, لكي يعلنوا ترشيحهم لخيرت الشاطر لمنصب رئيس مصر في الاستحقاقات الرئاسية المقبلة.
هل هي انتهازية سياسية فقط؟ في الحقيقة هيي علامة على أن السياسة بلا أخلاق تظل مسألة يؤمن بها الكثيرون بمن فيهم أولئك الذين يرفعون الشعارات الأخلاقية ويحاولون إقناع الناس بأنهم قادمون لكي يقدموا نماذج أخرى من العمل السياسي غير تلك التي سادت في السابق.
ماوقع أول أمس في مصر, يؤكد أن كثيرا من الشعارات تسقط حين الممارسة بسرعة, وهذه ليست إلا البداية, وغدا سنرى رئيس مصر الإخواني يزور تل أبيب تفعيلا لاتفاقيات كامب ديفيد.
من يراهن؟

الثلاثاء، 6 مارس 2012

الحاج إدموند و"تمغربيت"

"شكون اللي قال" أن الثقافة ليست منتوجا تلفزيونيا قابلا للتسويق، وقابلا لشد انتباه الناس، وقادرا على أن يمنح الهنيهات الراقية والمتميزة فعلا لجمهور التلفزيون؟
قائل هذا الأمر عليه أن يشاهد الحصة التلفزيوينة الجميلة جدا التي قدمتها القناة الثانية يوم الأحد الماضي عن الراحل إدموند عمران المالح ضمن البرنامج الوثائقي الجديد "فيلم حياة" الذي تعده وتقدمه الزميلة سمية الدغوغي.
حلقة قاتلة في إبداعيتها وبساطتها وعمقها، هي التي اختارت إعطاء أصدقاء الراحل الكبير الكلمة لكي يتحدثوا عن الحاج عمران بكل ثقله، والذين استطاعوا في لحظات معينة من الحكي أن يحيطوا ببعض من حياة الرجل، والذين استسلموا في كثير لحظات البرنامج لوطأة التذكر، وللعلاقات الإنسانية القريبة جدا التي جمعتهم به، والتي أتتهم دفعة واحدة آثناء الحديث عنه
حضرت المدن التي أحبها الرجل، حضرت الصويرة بكل رمزيتها، حضرت أصيلة التي كانت ملاذه الثاني من الحياة، حضرت اللوحات التشكيلية التي كان يصنع منها وفيها وبها عالمه الخاص المحيط به، حضرت الكتب العديدة والمؤلفات اللاتنتهي، حضرت المقولات القصيرة لكن البليغة التي كان إدموند يستطيع وحده حكايتها ونسجها، ثم حضر ذلك التصور الجميل للصداقة التي يقدسها الحاج إدموند حد العتب على المقربين منه والأصدقاء الحقيقيين وإن أخلوا بشي قليل من قواعدها وطقوسها.
والحلقة تسير نحو مرفئها الختامي كان طلب واحد ووحيد يداعب مني الوجدان هو أن لاتنتهي أبدا تلك الاستعادة، أن لاينتهي إدموند، أن يعود إلينا يوما.
ومع الإدراك الكامل بأن الأمر صعب بل مستحيل لأن الحياة طافت طوافها الأخير، وإدموند اليوم تحت التراب إلا أن التلفزيون الحقيقي يصلح لهذا الأمر بالتحديد: أن يعيد إلينا كبارنا، وأن يعطينا الإحساس أنهم لم يعبروا من هذا المكان عبثا، بل كانت لديهم القدرة على بصم الحياة بميسمهم، وتمكنوا من جعل حضورهم معنا قسريا وإن غابوا.
تلفزيوننا للأسف الشديد "لايرتكب هذه الزلات الجميلة" إلا نادرا. عوضها يفضل أن يقترف الزلات الحقيقية والمجرمة، أن يعطينا الإحساس أن بلدنا عاقر، وأنه لم يلد أمثال إدموند، ولم يكن في يوم من الأيام قادرا على أن يمنحنا فخرا كثيرا بالانتماء إلى هذا البلد مثلما حدث لكل من شاهد حلقة الإثنين الفارط عن الرجل الرائع الذي كانه الحاج
وليست هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها هذا الكلام, لكنني لاأمل من ترديده أبدا. هذا البلد ليس بلد الداودية وحجيب فقط. هذا البلد بلد الكثير من الكبار, والتلفزيون الذي يعتقد أن عليه دور تجهيل وتضبيع حقيقي يمارسه على الناس, وبالتحديد على الأجيال الجديدة, عليه أن يعلم أن جريمته لن تمر هكذا.
نعم, يمكن لمسؤولي التلفزيون الحاليين أن يبقوا في مناصبهم دون أدنى إشكال, لكن التاريخ لن يرحم تكاسلهم وتهاونهم وعملهم على تصوير البلد باعتباره خلاء كبيرا لم يلد في يوم من الأيام إلى الدرجة الرابعة من الشيخات. وعندما نشاهد هاته الأيام عبر "ميدي آن تي في" مسلسل "حريم السلطان", أو "القرن الرائع" حسب التسمية الأصلية للمسلسل, ونتابع من خلاله حكاية السلطان العثماني سليمان القانوني, ونتفاعل مع شخصياته, نتساءل عند نهاية كل حلقة إن كان سلاطين المغرب القدامى لا يصلحون حقا لعشرات المسلسلات المتميزة, وإن كان القدر دوما منا في هذا البلد الحزين ببعض مسؤوليه _ لا سامحهم الله _ هو أن نتفرج عليهم كل مرة وهم يعضون أصابع الندم على سيتكوم فاشل أنجزوه أو على سلسلة فكاهية "كتقتل بالفقصة" تورطوا فيها وتقاسموا مع "اللصوص" الآخرين الذين منحوهم ثمن إنتاجها "الحصيصة" ككل.
حقيقة لا أعرف كيف انتقلنا من الحاج إدموند الرائع إلى السيتكومات الفاشلة, لكنه الخيط الرابط المسمى التلفزيون بين المسألتين, والذي أهدانا لحسن الحظ هاته المرة شيئا جيدا وجميلا وقابلا لمنحنا بعض الأمل أن الأشياء ليست بالسوداوية التي يصورها لنا مسؤولو التلفزيون أنفسهم, حين ينهارون أمام مد الرداءة المسيطر ويقررون منافسة بعضهم البعض في الشعبي الساقط (مصاب كون غير كانو تيديرو لينا الشعبي على حقو وطريقو) لأن نسب المشاهدة الكاذبة قالت لهم إن هذه هي الطريق الوحيدة الموصلة إلى المشاهد المغربي حقا.
أخيرا وقبل أن تنتهي حلقة الحاج عمران يوم الأحد الفارط, استوقفت الكاميرا أنظار الجميع, وهي تتحرك في مقبرة البحارة في الصويرة, وتعيد صور ذلك اليوم الحزين الذي التقى فيه الرجل بتراب موكادور إلى أبد الآبدين.
وجد أندري أزولاي كلمة قاسية حقا في جمالها لوصف من حضروا الجنازة حين قال "لم يحضر أي منا بموجب الواجب, كلنا حضرنا بموجب الحب", قبل أن يقول متدخل آخر "كان إدموند يريد فقط أن يذكره التاريخ باعتباره مفكرا مغربيا لا أقل ولا أكثر", فيما كانت الكتابة على قبر االمالح بأربع لغات هي العبرية والعربية والفرنسية والأمازيغية تقول إن درس الانتماء إلى هاته الأرض هو درس أبلغ من أن نستوعبه مرة واحدة ونكتفي.
درس "تمغربيت" الحقيقية درس يتكرر يوميا إلى آخر الأيام
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
يقولون اليوم إن بوتين من أجل أن ينسي العالم في الطريقة التي عاد بها إلى رئاسة روسيا سيسمح بتدخل إنساني في سوريا لوقف القتل الذي يمارسه بشار هناك. عندما نسمع هذا الكلام نعرف أن الدم في أوطاننا رخيص فعلا, وأننا لانساوي عند العالم الآخر شيئا كبيرا يستحق اهتماما فعليا إلا إذا كنا مليئين نفطا أو ذهبا أو شيئا قابلا لإثارة انتباههم
في حال العكس, أي عدم التوفر على شيء, علينا أن نتأكد ألا أحد سيهتم.
لا أحد على الإطلاق

الجمعة، 17 فبراير 2012

إعلان حب متأخر

ارتدت ملابسها بعناية ذلك اليوم. البروش الذهبي الذي أهداها إياه ذات يوم والذي لم تعرف إن كان من الذهب الحقيقي أو من "البلاكي أور" رصع الجلباب الأحمر الجميل. على الشعر سترته الشهيرة, وفي العينين الكحل المغربي العتيق. تطلعت إلى المرآة اليوم مئات المرات. منذ اللحظة الأولى التي استفاقت فيها, كانت مصرة على أن ترمق بعينيها عينيها. أن تمسح منهما تماما علامات السهر المتوالي, والحزن اللاينتهي وأن تذهب إليه "في كامل مشمشها" مثلما قال الراحل محمود درويش يوما عن أشياء لازالت فوق هذه الأرض تستحق الحياة.
إفطارها كان سريعا للغاية. هي أصلا لا تأكل كثيرا, وعلاقتها بالطاولة علاقة تهييء لها فقط. تضعها, تجهد النفس كثيرا لكي تأتي في الختام حافلة بما لذ وطاب, وفق مستطاع الفقراء طبعا, وتحرص على أن تتملى فيهم جميعا وهم يأكلون بعد أن تنتهي من إعداد الطاولة. هي الأولى تنهض مباشرة بعد أن يفرغ الجميع من الأكل. تستأنف في المطبخ علاقتها الخرافية بالتعب وب"تمارة". تغسل الصحون قصدا بكل العناية الممكنة, وتتأمل في زجاجها بتدقيق غريب باحثة عما يمكن أن يكون شيئا أفلت منها هنا وهناك, وبقي رغم عملية الغسل الدقيقة عالقا بالأواني.
استلت من الدرج العتيق قارورة العطر التي أهداها إياها. استنشقتها بكل الحب, ثم وضعتها في الدرج. هي لاتضع هذا العطر أبدا. تتنسم فيه رائحته, وتقول لنفسها إنه أهداه لها مرة ولا تعرف إن كانت ستحظى بالهدية مرة أخرى, لذلك تتركه في الدرج, وتترك قارورته تذكارا لما تبقى لها من أيام. صورته أيضا في الدرج. في الحقيقة صورته منها في كل مكان من البيت الصغير. تصر على أن تراه في كل الأرجاء. تضعها في البهو الأول المؤدي إلى المنزل. صورة كبيرة ببرواز ذهبي جميل, يبدو هو فيها مقطبا حاجبيه بعض الشيء, لكن الجانب الأيسر من فمه يند عن ابتسامة تريد الخروج, تكشف شخصيته المرحة والميالة للمقالب باستمرار.
في الصالون الصغير الداخلي صورتان له, واحدة بلباس فريقه الرياضي المفضل, والأخرى بالبذلة الرسمية, وبربطة عنق كانت هواه المستمر في عالم الصرعات والموضة التي لم يتبعها في يوم من الأيام. تلك الربطة رافقته دائما, ذهب بها إلى أول حفل تخرج من المعهد, ثم ذهب بها إلى مقابلة العمل الأولى, ثم ذهب بها أول أيام العمل, وبعد ذلك رافقته في كل الأعياد والمناسبات, وبالأخص في أعراس أصدقائه. كان يضعها ويضحك, وهو يقول "غادي تعقل على كاع الزردات اللي حضرت فيهم". هي كانت تصر على أن تقترب منه بدلال وخفر, لكي تعدل ربطة العنق قليلا جهة اليمين أو جهة اليسار, ولكي تطبع على الخد قبلتها المحببة والدائمة, دون أن تهتم بالآخرين. هي لا تحفل بهم. تجعل من عينيه إذ يرافقانها في كل شبر من البيت الطريقة المثلى لتحمل غيابه "إلى أن يعود". هي تحبه, هكذا وبكل اختصار, لذلك هي لاتخجل من وضع كل هاته الصور, وإن رأى فيها الآخرون علامة شيء غير عادي.هي أصلا لم تكترث أبدا بالآخرين, لذلك لايهم.
مكياجها خفيف هذا اليوم. بودرة قليلة على الوجه, وأحمر شفاه خافت, يصلح لمقاومة البرد القارس هذه الأيام أكثر مما يصلح للزينة. هو يفضل المكياج الخفيف, وهي تعتنق كل مايفضل, لذلك تفعل مايريده دون أدنى مناقشة. واليوم وهي ذاهبة إلى زيارته لاتريد أن يحس بأي شعور سيء عند مشاهدتها. هي تريده أن يعرف أنها تنفذ حرفيا كل مايريد, وأنها على العهد الذي كان, منذ أن اشتبكت الأيدي منهما ذات يوم أول مرة, وحتى آخر الأيام.
أقفلت الباب بهدوئها المعتاد. وضعت المفتاح في الحقيبة اليدوية الجميلة التي اشتراها لها من أول راتب تسلمه, نزلت الأدراج وهي تتمتم ببعض الأدعية. سلمت على الجارة التي التقتها في الفناء الداخلي لباب العمارة, ثم خرجت لاتلوي على شيء, قاصدة موعد الحب الكبير هذا يوم الرابع عشر من شهر فبراير.
عادتها معه أن تزوره باستمرار, لكنها تحرص في هذا اليوم بالتحديد على أن يكون اللقاء مخالفا بعض الشيء. أن تطبعه بالهوى الذي تحمله له في دواخلها, أن تحتفل رفقته باللحظات التي جمعتهما منذ أن تعرفا على بعضيهما البعض في اليوم الأول. مرت على بائع الزهور الذي يعرفها خير المعرفة. أعطاها الباقة الشهيرة إياها, بوردتين من الليلك, ووردة ياسمين واحدة, وثلاث بنفسجات, ثم الوردة الحمراء الظاهرة التي تعني الحب ولا شيء غير الحب.
امتطت سيارة الأجرة, وعدلت من منظرها في انعكاس المرآة المقابلة لها داخل السيارة. سألت نفسها "كيف سيكون هذا الصباح؟". وصلت إلى مكان استقراره. وضعت باقتها. نادت على بعضة أشخاص غرباء. نفحتهم بعض الدراهم, وطلبت منهم أن يرددوا على مسامعها سورة ياسين, مباشرة فوق المكان الذي يرقد فيه.
رشت على قبر إبنها بعض الماء, وقليلا من الورد. غالبت الدمعة القادمة, فغلبتها, وعدته أن الزيارة القادمة ستكون في الجمعة الموالية. قالت له "أحبك", ومضت لحال سبيلها. رأيتها رؤى العين, ورأيت فيها عيد العشاق إذ يكرر نفسه لديها كل سنة إيذانا بالرحيل, لأن إبنها اختار يوما أن يموت في هذا اليوم بالتحديد.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
الاسكيتش المشترك بين حسن الفد وعبد القادر السيكتور الذي قدماه في مهرجان مراكش للضحك, ونقلت تسجيله القناة الثانية "دوزيم" يوم الثلاثاء الفارط, عمل رائع باختصار. واحد من تلك اللحظات التي تصنع العمل المشترك التاريخي الذي يبقى على الدوام. هو أمر شبيه باسكيتش "الدركي" لكوليش أو اسكيتشات دوفوس الخالدة, أو للاقتراب من عوالم الثنائي اسكيتشات "شوفاليي ولاسباليس" أو "باز وبزيز" سنوات مجدهما, وهو هنيهة التقاء قامتين حقيقيتين في مجال الفكاهة, مكنت من شاهدوهما سواء في مراكش بشكل مباشر أو عبر تسجيل دوزيم أن يتذوقا القيمة الفنية لهما معا على الخشبة حين الإبداع.
جمال الدبوز قالها بعد انتهاء الفنانين من عملهما : ثنائي ولد الآن, والمتعة الفعلية التي صنعها الرجلان معا لاتستحق إلا كلمة واحدة : شكرا كبيرة لكما معا.
.

الجمعة، 10 فبراير 2012

ثلج فقط, ليس إلا...

إلى "الوليدات" الذين يموتون بردا في مغرب القرن الواحد والعشرين. سمحو لينا وصافي





في النشرة الرئيسية صغار يلعبون بالبياض الداكن المسيطر على المكان. تتفاءل المذيعة دونما سبب ظاهر وهي تقول لنا إن الأسر حجت اليوم إلى الجبال والمناطق الباردة لكي تستمتع بالثلوج ومنظرها الجميل. يتناهى إلى الناس صوت مذياع السيارة التي أقلت الطاقم التلفزي إلى هناك, وهو يترنم ببعض المقاطع الشعبية. تلقي كريات الثلج ببعضها البعض على أوجه الصغار وعائلاتهم, ويقول طفل يبدو نجيبا أكثر مما يسمح به سنه إنه "أتى إلى هنا لكي يمارس السكي رفقة السيد المونيتور". ينتهي الروبرتاج بصورة شاب طريف للغاية لم يجد من أدوات التزحلق إلا صحنا من "الجالوق", امتطاه ونزل مرفرفا لايلوي على شيء إلى السفح.
نفس الثلج, لكن بطبع أقل بياضا. هل يمكن للثلج أن يكون بلونين؟ نعم في بلد مثل المغرب, من الممكن أن يكون ثلجا بكل الألوان, خاصة اللون الأسود القاتل. تضع الأشياء أوزارها في هذا المكان, منذ الدقيقة الأخيرة لشهر شتنبر. يترقب الناس السماء كل يوم بنظرة شزراء خائفة من مفاجآت كل عام. وحين تهب أولى لفحات البرد وتأتي البشائر التي تستحيل هنا إنذارات, يبحث الأب في قلب الخزانة العتيقة التي لاوجود لها عن أكثر الملابس قدرة على تأمين الصغار, والعبور بهم نحو موسم الربيع بأقل الخسائر الممكنة.
في وطني لازال البرد قادرا على قتل الصغار وهم بين ذويهم, وفي قلب الأكواخ المسماة منازل. في وطني لازال البرد قاتلا متسلسلا "سيريال كيلر", يخرج كل عام من مخبئه ويفعل ما يشاء, ثم يختفي في انتظار برد آخر وموت آخر.
عندما يعود بك المشهد إلى الثلج الأول, ثلج "السكي" لا ثلج الموت, تتراءى لك المدفئة خارجة من كتاب للتلاوة مقررة على التلاميذ الفرنسيين. إسمها "لاشوميني", وتبدو في الصور الأولى للصغر قادرة على منح الحنان والحب بالإضافة إلى الدفء طبعا لكل من يتحلقون حولها. منها يخرج "بابا نويل" أيضا لكي يمنح الهدايا في أعياد الميلاد المجيدة للأطفال الصالحين الذين ينجزون واجباتهم الدراسية بعناية, والذين ينصتون لنصائح "البابا والماما", ونصائح كل الأغبياء القادرين على نصح الناس. الصغار الآخرون, صغار الثلج القاتل هذه المرة لم يسبق لهم أن رأوا "بابا نويل" أبدا في صغرهم, لكنهم عندما يكبرون ويذهبون إلى المدينة مهاجرين بحثا عن ذلك الكافر المسمى "طرف دلخبز", يرتدون ليلة السنة الميلادية الجديدة قناعه, ويقفون لكي يلتقط قربهم المارة الصور التذكارية مقابل خمسة دراهم تنفع لشيء ما بكل تأكيد.
الصغار الآخرون, أولئك الذين كان يزورهم "بابا نويل" كل سنة من المدفئة لايكترثون حينها لبابا نويل "ديال بالعاني" الواقف قرب النافورات أو في الساحات العامة, لأنهم حينها يكونون في أوربا أو في مكان آخر مغلق بعناية ومعد للاحتفال بعيدا عن كل الأشياء التي قد تفسد للجو نكهته والتي قد تعكر المزاج.
لنعد إلى الثلج. تتساقط ندفه (هكذا يسمونها؟ أليس كذلك؟) على الرأس المتدثر بالبونيه الفاخر المزود بجيب إخفاء الأذنين, وتشتعل النار إيذانا بقرب حفل الشواء, وتستعد المعدة والأمعاء وكل حواس التذوق للاستمتاع قدر الإمكان بالتزاوج المتناقض بين برد المكان, وبين سخونة النار المتصاعدة رفقة دخان الخروف الذي يتقلب على أجنحة النيران. تلتفت المجموعة كلها, فترى راعيا صغيرا يقود خرفانا لامعنى لها نحو أسفل الجبل, هناك عند المنحنى الأخير للمياه. جلبابه الذي كان ابيضا في يوم من الأيام, يبدو بلون غير قابل للوصف, عيناه كبيرتان وجميلتان, لكنهما حزينتان, والكلب الأجرب الذي يرافقه في رحلة الرعي الباردة هاته, يبدو غير مستوعب للأسباب التي جعلت الطبيعة تلده في هذا المكان بالتحديد.
لعله هو الآخر كان يقارن نفسه في تلك اللحظة "بشي بيرجي ألمان", أو بكلب آخر من الفصيلة النادرة والفاخرة الذي يتمختر في اللحظة ذاتها بين أرجل الأسياد, مستعطفا نظرة حنونة من السيدة أو تربيتا على الكتف من السيد, ومنتظرا متى ستجود عليه الخادمة بصحن "الكروكي" المعد لأكل الكلاب. في الختام لافرق بين الكلب الفاخر وبين كلب الرعي الأجرب إلا في بعض التفاصيل الصغيرة والتافهة. هما معا كلبان في نهاية المطاف.
الليل يرخي سدوله على المكان. درجات الحرارة تنزل وتنزل وتواصل النزول. الثياب تبدو غير قادرة على المقاومة. المذيعة في التلفزيون لازالت تقول الكلام نفسه عن "الثلوج الناصعة, وعن استمتاع الأسر بالجو الآسر". الآباء الخائفون على الصغار من موسم الموت هذا يواصلون النظر نحو السماء بخوف يسألونها الرحمة, ويسألونها في نفس الآن "لماذا؟". المتحلقون حول حفل الشواء وسط الثلوج ينفضون دون أن ينظفوا المكان. الراعي الصغير, سيصعد المسافة كلها التي نزلها في الصباح. كلبه الأجرب سيتبعه إلى أي مكان ذهب إليه.
الكلاب طبعها الوفاء. وهذا الموت الذي أصبح يزور الفقراء بسبب البرد أيضا طبعه الوفاء, لكنه وفاء من النوع القاتل. تقول لنفسك على سبيل الختم الحزين "هو مجرد شتاء آخر. ثلج فقط, وموت وفناء ليس إلا..."

الثلاثاء، 17 يناير 2012

يوم للبكاء

كأس من الأحمر العتيق فارغة. لفافة تبغ غير عادية تطلق في المكان أريجها وتحيلك على آلاف التهيؤات. الأوتار المترنحة بين الهمسات الأطلسية تتأرجح. وصلنا خنيفرة في الصباح الباكر. الوجهة أمالو غريبن, أحد أحياء المدينة. قبل أن نغادر وجهتنا الأولي منطلقين من مدينتنا, كان الرفاق مصرين على أن يصحبنا الرجل الرحلة كلها. أسطوانته في شكل الكاسيط القديم تدندن بما عن لها من إبداع, ونحن نهز الرؤوس بين الفينة والأخرى, مترنمين بكلمات أمازيغية لا نفقه معناها لكنها تخاطب فينا شيئا دفينا, داخليا, غريبا لانعرفه لكننا نحسه ونعيش معه بالإحساس فقط.
نبلغ المكان. نضع الأمتعة, ونسرح في الحواري والدروب المحمرة بلون خنيفرة وفقرها. نتذكر الشيختين اللتين حلق لهما القايد شعرهما لأنهما رفضا أن يغنيا له ذات يوم. نتذكر الأصدقاء الذين شاركونا الدراسة من هذا المكان. نتذكر كل الأشياء التي تنتمي إلى الأطلس من الشباب فريق المدينة إلى المايسترو الحسين أشيبان, لكننا نتوقف طويلا عند الرجل. نجعل منه المحور العام والخاص للرحلة, ونسمي به المكان كله. لانعرف من الأمكنة يومها إلا زاوية الشيخ وآيت إسحاق, نقصدهما للهو بريء كل مرة, ثم نعود, وهو معنا. نتحدث عن السياسة, عن الفن, عن الرياضة, عن الأدب, ويبقى هو باستمرار قابعا في تلافيف الحديث, يعود ويعود ويعود إلى درجة اللا انتهاء. إلى درجة التماهي مع المكان. إلى درجة الخلود فيه وله وبه إلى ما شئت من الأيام.
ستة أيام من رحيل, وبعدها خلق رويشة "الوتار". جعل له شكله غير العادي, وطعمه بالجلسة الرائقة الخاصة جدا, والرجل تتوسد الرجل الأخرى, والشارب الرفيع, يعلن التحدي في وجه الزمن, والكلمات بالصوت الأطلسي القاتل تصل إلى أبعد البعيد. من هم عشاق رويشة في النهاية؟ كم يعدون بالتحديد؟
يصعب فعلا أن تجيب دون أن تخطئ إذا كنت ستقول شيئا آخر غير : المغاربة كلهم.
أينما وليت وجهك ثمة وتر يناديك من أعماق ذلك الأطلس الحزين, يحمل وصف وسمة وإسم السي محمد, ويقول لك إنك لن تكون مغربيا مكتمل "تمغربيت" إذا لم تبك يوما للحن رويشة وكلماته, أو على الأقل إذا لم تسر معك القشعريرة الشهيرة التي تجتاح المسام كلما سمعت الرجل يسأل الزمن "شنو دار ليه" في رائعته "إيناس إيناس" أو غيرها من الروائع.
ولأنه اللطف بعينه يأبى الرجل إلا أن يهيئنا جميعا لرحيله. يدخل على حين غرة المستشفى الشهير بالرباط. يبقى فيه لأيام. يرعبنا على حاله, ويجعلنا نطلب اللطيف يوميا, ثم يستفيق. يبدو في المشهد الشهير في النشرة الإخبارية الرئيسية راغبا في طمأنة الكل على حاله, وبعدها بيومين أو ثلاثة يتعهد في نفس النشرة, في نفس التلفزيون أن يقلع عن التدخين اللعين, ذلك الذي كاد يختطفه هو والعادات السيئة الأخرى من محبيه, لكنه ينسى أن يقول لنا جميعا إن الأوان قد فات, وأن المسألة هي مسألة أيام أخرى إضافية في هاته الحياة, وينتهي كل شيء. رحم الله السي محمد.
كان يوما حزينا باختصار. قبل السي محمد رويشة, وصل نعي المشاهب الصارخ. السي محمد السوسدي في ذمة الله. "ضربتين في الراس توجع". هكذا يقول المصريون, لكن المشاهب يقولون في الأغنية "بين الكديات كان الميعاد
يستنى الليل و قادر الله
وسط الواد آ بابا حسينا بالخديعة
و ما منا هراب آبابا و تم كانت لفجيعة
و خا جا الواد برحالو و كانت الحملة قوية
القلب فينا تدفن حالو
ما يتفهم و لغازو قوية
ويلي وا بابا" ويلي ويلي ويلي
قبلها بأيام معدودة كان في القناة الثانية يحكي لعتيق بنشيكر عن المشاهب وعن المسار كله. غلبته دمعة لم يستطع حبسها, واضطر لشرحها بعد ذلك بالقول "ّواش عرفتي علاش بكيت؟" قبل أن يجيب لوحده وهو يرتدي القبعة الأوربية الجميلة "حيت المشاهب كانت كلشي فحياتي". غنى وغنى معه الكثيرون الروح الغيوانية التي كانت في الزمن الذي قبلنا بقليل. أتينا فوجدنا أجيالا من المغاربة, منهم إخوتنا الكبار, يطلقون الشعر, ويرتدون اللباس الفضفاض, ويتخيلون أنفسهم واقفين وراء الطبيلة أو "شادين البندير", يغيرون العالم بصراخهم, والأغاني.
فهمنا بعد أن كبرنا بقليل أننا مررنا قرب التجربة. لا نحن جيلها, ولا نحن جيل قادر على أن يخلدها ويديمها مزيدا من الوقت, فكان الحل الوحيد بين أيدينا أن نحفظ كل تلك الأغاني وأن ندندن بها نحن أيضا لئلا تنتهي, ولكي يبقى لمفعولها أثر السحر الذي جرالجيل الذي سبقنا إلى الخراب, والكثير من الدمار.
نجلس قرب الجثتين معا يوم الثلاثاء الحزين. نعرف أننا فقدنا كبيرين حقيقين في المغرب اليتيم. نتحسس الوقت والساعات. نقرأ على المؤشر تاريخا سيبقى إلى النهاية دلالة على كثير الغبن والألم: الثلاثاء 17 يناير 2011, فقدنا للتو السي محمد السوسدي والسي محمد رويشة. الأول غنى للحيدوس يوما, والثاني من موطن الحيدوس الباكي يومها جاء. يالمكر الالتقاء, يا للعنة المصادفة..
تعلو في المكان صرخات وآهات وألحان وأوتار كثيرة. أسمع من بعيد البعيد اللحن الأطلسي الحزين يزاحم الكلمات الأخرى الخالدة في الذاكرة "حطوني وسط الحصيدة
نشالي يا بابا
يعلم الله بالمصيدة
القلوب الكذابة
نبكي, تنزل الدموع حارة وبطعم غريب. نمسحها ونعيد البكاء من جديد. هذا اليوم خلق للدمع ليس إلا. وداعا أيها الكبيران.

الأربعاء، 11 يناير 2012

آلو, معاك بنكيران

المختار لغزيوي الأحداث المغربية 11 يناير 12
الاربعاء 11 يناير 2012 - 11:25



تذكرت فور انتهائه من مكالمته عباس الفاسي. لسبب لا أعلمه قفز القيادي الاستقلالي إلى ذهني, واسترجعت العلاقة المتوترة التي جمعت بين الوزير الأول السابق وبين الصحافة المغربية "تي تي سي", أي بكل تفرعاتها. بقي الرجل منذ أن هل علينا ذات ليلة قدر شهيرة, وحتى حمله الربيع العربي إلى استراحته غير المستحقة كثيرا يكن كل الكره الممكن تصوره لصحافتنا المحلية, وظل مصرا على التذكير بالأمر كلما أتيحت له الفرصة سواء بالقول أو بالفعل.

وصحافتنا _ والحق يقال _ بادلته "الحب بحب" أكبر منه, ولم تفوت فرصة أتت بين أيديها لكي تذكره أنه "أضعف وزير أول عرفه المغرب في تاريخه", أو لكي "تدق عليه" من باب التعليمات التي ظل يقول باستمرار إنه مجرد منفذ لها, أو لكي تفتح عليه كل بوابات الصراع الداخلية التي يحبل بها حزبه خصوصا منذ أن أصبح على رأسه خليفة بشكل أو بآخر لعلال الفاسي ولامحمد بوستة ولكبار كثيرين عبروا حزب الاستقلال يوما ولم يتصوروا أنه سينتهي عند صديقنا العباس.

عكسه تماما يبدو رئيس الحكومة الجديد عبد الإله بنكيران مقدرا للغاية للدور الذي يمكن أن تلعبه صحافة مهنية وموضوعية في مرافقة التجربة الحكومية الفريدة التي يقودها. لا أتحدث هنا عن صحافة التلميع والسيراج, ولا عن صحافة التجريح والتحامل.

أتحدث عن الصحافة التي تستطيع بغض النظر عن اختلافاتها الفكرية أو ماتعتقد أنه اختلافاتها الفكرية مع الرجل وحزبه أن تقول له لحظة الإحسان "أحسنت", ولحظة الإساءة "الرجوع لله آسي عبد الإله". وعندما أتاني صوته الإثنين عبر الهاتف لكي يعبر عن موقف ما بخصوص مقال نشر في عدد ذلك اليوم, فهمت أننا على الأقل أصبحنا نتوفر على رئيس حكومة يعرف جيدا معنى التفاعل مع ماتكتبه صحافة بلاده, ويعطي من خلال حركات رمزية لاتكلف إلا قليلا من الوقت, وبضعة سنتيمات بحساب الثواني الذي علمتنا إياه شركات الهاتف, الدرس الذي ننتظره جميعا والذي يقول لنا أن كل صيحاتنا لن تكون في واد, وأن مانخطه من كلام لايذهب سدى بل يصل إلى المعنيين به قبل الآخرين, وهذا هو المراد في الختام.

البعض سيقول إن "بنكيران يتواصل سياسيا بمثل هاته الحركات", أو "يقوم بالماركوتينغ السياسي فقط لاغير". هذا الكلام لايهمني. أهم منه بالنسبة لي أن نعثر في حركات مسؤولينا وتصرفاتهم على دلائل تؤكد لنا أن هناك رغبة في مد جسر الحوار بين مختلف الفاعلين في الميدان العام المغربي. وعندما تذكرت العباس بعد مكالمة عبد الإله بنكيران يوم الإثنين الماضي, لم يكن ذلك من باب التحامل المجاني أو ماشابه, ولكن كان الأمر من باب التنفيس عن غيظ مسنا جميعا في هذه الحرفة تجاه الرجل وتجاه الاحتقار الكبير الذي كنه باستمرار لصحافتنا المحلية, مقابل إقبال غريب جدا على الحديث لصحف أجنبية لا يعرف عنها المغاربة شيئا, أو الحديث القاتل والممل والروتيني لصحافة حزبه وفق الشعار الشهير المفهوم لدينا بشكل مقلوب تماما "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما".

ولقد قلتها للزملاء يوم الإثنين ونحن نتحدث عن معنى مكالمة بنكيران "ليعطنا الرجل وحكومته يوميا دلالات على أنهم مغايرون, ونحن مستعدون لكي نكتبها باستمرار, ودون أي ملل". لن نقلد من يتدبرون لهم مكانا تحت شمس البيجيدي وحكومته الساطعة هذه الأيام, فنحن نتقن فقط الصحافة ولا شيء غير الصحافة, ولن نتحامل مثلما يعتقد الكثيرون على التجربة لأننا لا نعطف على الخط الفكري الذي يقودها, لن نقوم بالمسألتين. سنقوم بدورنا فقط كصحافيين نخبر الناس ونعلق على أخبارنا وفق مايمليه علينا ضميرنا بكل بساطة لأننا نعرف أن بنكيران لم يعد من أن عينه جلالة الملك رئيسا للحكومة أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية, بل أضحى رئيس الحكومة المغربية, وهذه الأخيرة تهمنا وتهم شعبنا في المقام الأول حد نسيان كل شيء والتركيز مع عملها هي فقط لا غير.

في مكالمته قال بنكيران "لقد أعطيتمونا حق الشك, وبالنسبة لي هذا أمر إيجابي خصوصا حين يأتي من الأحداث المغربية". لم أرغب حينها في الدخول في نقاش طويل مع الرجل وهو الذي قام بحركة ديبلوماسية أراد بها التعبير عن شكره, لكن من الممكن هنا القول إن هذه الجريدة _ ومافيها باس نديرو شوية ديال عظم خوك ولا راسك كاع آلبخاري _ علمتنا هذا الأمر بإتقان كبير, وعلمتنا أساسا أن نفاجئ من يعتقدون أنهم خصومنا بالدليل الصارخ على أننا لانعادي إلا من يعادي بلدنا, وأننا بالمقابل مستعدون للصياح باسم أي كان نرى أنه يخدم المغرب فعلا.
لعله الدرس الذي استعدته بعد إقفال الهاتف, ولعله المبرر الذي نجده لكي نشكر الرجل على تفاعله اللطيف, ولكي نخبره أننا ننتظر منه ومن حكومته الشيء الكثير. ولعلها الذريعة لكي نطلب من صحافتنا كلها أن تكون مهنية مع الحكومة الجديدة, لا أقل ولا أكثر. فبنكيران وصحبه ليسوا بحاجة لمن يكتب عنهم وفيهم قصائد المدح, ولا لمن يمضي يومه بأكمله في هجوهم.

حكومتنا تحتاج أن نقول لها الحق لكي نجد الطريقة المثلى للخروج من الوضع الذي نحن فيه اليوم. فهمتيني ولا لا؟ مثلما يقول عبد الإله في لازمته الشهيرة التي ستصبح لازمة كثير من المغاربة هذه الأيام.


ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
"مزيان" أن يزور الاتحاديون قبر الراحل عبد الرحيم بوعبيد. "مزيان" أن يتذكروه وأن يقيموا لذكراه كل الأشياء. "مزيان" أن يستعيد حزب مثل الاتحاد الاشتراكي تعرض لكل ماتعرض له الأيام الخوالي, وأن يعيد إلى ذهن من لازالوا فيه أن رجالا كبارا من حجم بوعبيد كانوا قادة هذا الحزب في يوم من الأيام.
كل هاته الأشياء "مزيانة" جدا, لكن أجمل منها أن يلد الاتحاد الاشتراكي "شي عبد الرحيم بوعبيد جديد", وأن يثبت أنه لم يمت ولم يصبح عاقرا غير قادر على إنجاب أمثال عبد الرحيم.

قالها اليساريون الفرنسيون هذه الأيام لهولاند وهو يزور قبر ميتران: البكاء على الموتى لايكفي سيد فرانسوا.