الاثنين، 22 أكتوبر 2012

ضد التبعبيع الجماعي

العيد على الأبواب. وبالحساب الرقمي المضبوط, ثلاثة أيام فقط هي التي تفصلنا عن العيد الذي يسميه المغاربة "العيد الكبير". كلمة الكبير هنا تغني عن أي نقاش, وتحيلنا على المكانة التي يعطيها شعبنا لعيد الذبح واللحم هذا. جولة صغيرة في كل مكان كافية أيضا لكي تنقل الأجواء الغريبة التي ينخرط فيها الجميع. سكاكين تشحذ هنا, و"شواقير" يعاد التأكد من حدة نصالها هناك. شوايات من مختلف الأحجام والألوان والأشكال, تباع لكل راغب في إشعال النار يوم العيد, وعطرية منها المهرب الذي ثبت أنه ضار صحيا, ومنها البلدي المصنوع "على اليد", و"على حقو وطريقو" من أجل مواكبة الاحتفالات باللحوم الحمراء التي ستدخل بطون الفقراء المغاربة هذا الأسبوع. ثم هناك القروض. اقتراحات في كل مكان, تبدأ بسعر الأضحية دون فائدة, وتمتد إلى إهدائك ثلاجة أو "شي عجب آخر" إذا ما قررت المغامرة بمبلغ زهيد كل شهر من أجل مبلغ تدفعه لك شركة القرض تلافيا لأي نوع من أنواع الإحراج مع الجيران أو مع الأهل أو من الأغراب أيضا طالما أن حكاية العيد الكبير في بلدنا هي حكاية الجميع دونما استثناء, وإلا مامعنى أن تكون عابرا بخروفك في الشارع, فيسألك الجميع "بشحال داك المبروك؟", دون أن يحسوا بأنهم يتطفلون عليك, أو أنهم يسألونك عن خصوصية لا دخل لهم بها نهائيا. ومع كل الأجواء المرحة وأحيانا المضحكة التي ترافق هذا العيد الكبير, لابد من ملاحظة بعض الأشياء غير السارة كثيرا التي يجب التوقف عندها. هذه الرغبة الغريبة في الانتحار المادي من طرف أناس غير قادرين على العيد. هذه الروح البدائية التي تعود لكي تهجم على شوارعنا من خلال مشاهد التبن والعلف والبصل الذي يباع في الشوارع, وأيضا من خلال رائحة الغنم التي تصبح عادية في كل مكان هاته الأيام. هذا الابتعاد الفج عن معنى الأضحية في عيد الأضحى, والتنافس بشكل مخجل ومهين بيننا جميعا حول من سيشتري "الحولي الأكبر", وحول من سيبلغ "راس السوق", وحول من "سيطير بالمليح أو سيطير المليح به" الله أعلم. هذه الظواهر المشينة التي تشهدنا ونشهدها كل عيد, والتي تزداد بفعل الجهل المطبق على المجتمع استفحالا عاما بعد الآخر, ثم طبعا تلك المشاهد الخرافية فعلا لشعب يتحول كله إلى جزار يوم العيد, متجولا بالسكاكين في كل مكان والدماء تعلوه وتعلو محياه, معلنا الرغبة في المزيد من الذبح والمزيد من السلخ والمزيد من كل هاته الأشياء. كل هاته الأمور يجب أن تجد من يقول لها كفى في مجتمعنا, فإن لم تجد فعلى الأقل يجب أن تجد من يقول لها إنها مشينة على الأقل. كبار القوم وعليتهم, يهربون من هذا العيد لأنهم يعتبرونه بلا معنى عكس فقراء الناس, وطبقة متوسطة _ تكبر يوما بعد يوم _ أصبحت تحس أن اصطحاب خروف _ مهما كان ذلك الخروف طيبا وجميلا ورطب الصوف, ولذيذ اللحم _ إلى العمارة بين الجيران مسألة غير عملية كثيرا, خصوصا وأن الأمر يتعلق بسنة فقط وليس بفرض, وهو مايعني أنه من الممكن طرح السؤال بصيغة أو بأخرى حول إمكانية الاستغناء عن هذا العيد بشكل كامل, والاكتفاء بالواجب الديني للقادرين عليه, شرط تصديق الأضحية على الفقراء المحتاجين, مع العلم أن ولي أمر المسلمين في هذا البلد يذبح أصلا نيابة عن غير القادرين من أبناء شعبه. علماء الدين في البلد الذين يشغلون بالهم بمسائل لا نعرف مدى أهميتها ملزمون بالخروج على الناس في مثل هاته المناسبات لكي يتحدثوا بصراحة, ولكي يقولوا إن كثيرا من ظواهر هذا العيد بالتحديد ليست من الإسلام في شيء, وأن ديننا الذي يحرم إلقاء النفس في التهلكة, يمنع منعا كليا على من لا يستطيع شيئا أن يأتي به, ودورهم ثابت في هذا الباب, لكنهم لا يقومون به, ويفضلون الاهتمام بأشياء لانعرف سبب هوسهم بها, مايعني أنهم بعيدون عن ناسنا, وبعيدون عن شعبنا وبعيدون عن كل مايمس الأهل بالفعل في الأمور الحياتية المهمة التي تؤثر على العام كله. هناك اليوم دعوة في الفيسبوك أطلقت على نفسها إسم "مامعيدينش", لا أعرف ملابساتها ولا السبب الذي جعلها تختار هذا التوجه, لكن أحدا لا يستبعد أن تكون كل هاته الأسباب التي ذكرناها مجتمعة هي علة خروج هذه الصفحة إلى الوجود, وأعترف أنها دعوة تلاقي في النفس لدى العديدين كثير الهوى, وأنها عكس دعوة الإفطار في رمضان ترتكز على معايير موضوعية ومجتمعية ودينية من الممكن أن تجعل الموضوع قابلا للنقاش, شرط القدرة على هذا الأمر فعلا. في حال العكس, أي عدم القدرة على مناقشة الأمر سيكون الحل هو المزيد من "التبعبيع" والسلام.

الخميس، 18 أكتوبر 2012


دفتر العابر

مليئة بالمطبّات
 وكانت النجوم التي ترصّع سماء الرحلة
شاحبةً كجمرٍ مُنهَك
 كنارٍ مضرّجة بالدماء 

لم تكن شقياً بسبب ذلك 
كنتَ فقط تشعر بالبرد 
لم تكن شقياً ولا حزيناً
 رغم إسفلت السهرة المتشقق ورغم الأشجار
التي حلّقت بعيداً باتجاه خريطة أخرى 
ورغم مرايا الغبطة التي انكسرت داخلك 

يرن جرس الباب. مشهد ساعي البريد غير مألوف لدي. قلت لياسين في الكلام الذي تبادلناه يوما إنني تعودت البريد الإلكتروني وأني لم أعد قادرا على مجاراة البريد التقليدي في هبائه، لذلك استغربت أن يرن الهاتف الداخلي للمنزل وأن أطل من الكاميرا التي تكشف كل شيء، فأرى رجلا يتأبط طردا بريديا يقول لي إنه قادم من مراكش 
فتحت له الباب بزر إلكتروني بعيد. تأملت في المفارقة الكامنة بين الإثنين، وانتظرت صعوده. أتى محملا بدفاتر عبور ياسين. 
تلقفت الهدية مثل أي مشتاق لمعرفة المفاجأة الكامنة في تلافيفها. 
توعدني ياسين في الإهداء ببعض الظلال قائلا بأنني سأجد بعضا مني فيها. في الحقيقة لم أجد هذا البعض. وجدتني كاملا فيما خطه هذا الفتى الآسر المسمى ياسين. 
هل قلت لك يوما إن دفاتر عبورنا جميعا ستكتب على صفحات هذا الفيسبوك اللعين؟ أو تعلم أنك، أننا نؤسس للقادم من الكتابة بهاته الخربشات المخطوطة على موقع زوكربيرغ العجيب؟ 
لا أدري، لكنك حرمتني النوم ليل العودة من مراكش. رأيت المنتخب، وعدت منتشيا بالانتصار الوهمي بالرباعية، في الغد أتى الحامل لبريدك متأبطا خيره ومتأبطا الديوان الجميل. 
متعب أنا بعد العودة من الحمراء، لكن غواية القراءة أقوى أحيانا من الغواية التي على بالك، لذلك بدأت و لم أنته إلا وأنا أردد "أكتب لنا المزيد من دفاتر العبور ياهذا"
 سألتك بالله أيها القمر المشدود إلى الغيمة العذراء متى تغيب ليعم العماء فننعم وننسى قليلا كم نكره بعضنا ننسى الزياتين التي على جنبات الطرق ننسى طعم زيتها المر وأوراقها التي يبست في بطون الكتب لرحلة ياسين في الأرض سبب وجيه. لرحلة الفتى المراكشي الهوى والانتماء في الدنيا كلها أكثر من علة تجد نفسها في دفتر العبور هذا. كنت دائما أسأل النفس مع كل عبور جديد إن كنا سنجد يوما من يؤرخ للحظات السفر المتعددة نحو مختلف الوجهات ساعاتها. أتى الجواب عبر هاته الدفاتر, يحث الخطو نحو كل مكان وطأه الشاعر, يجد فيه بعضا من ملابسات العيش ذات زمان, وكثيرا من مسببات الحكي لمن لم يكن معه في ذلك المكان. هل هو التأريخ بالشعر للرحلات؟ لا أدري. وقد يكون لياسين تبرير آخر للأمر, لكنني وجدت في الدفتر آثار المرور من هنا ومن هناك, ووجدت فيه مثلما سيجد القارئ بكل تأكيد علامات الاتصال. من باريس إلى بروكسيل مرورا ببازل وبرلين ففرانكفورت وقرطبة ثم الإبحار طيرانا إلى هيثرو في لندن في مطارات العبور نعلق شخيرنا على أول بوابة لكيلا يصدأ بين جفوننا النعاس نترجل عن غيومنا وسماواتنا نخبئ الأقكار في محاجرنا نبحث عن مدافن هشة لظلالنا ونتخفف تماما من جنون السفر وكأي أندلسي عابر من إفريقيا بعروبة الأمازيغ المنتمين إلى كل الأجناس التي مرت يوما على هاته الأرض, والمسمى بالاختصار المفيد "مغربيا", لا يمكن لغواية السفر إلا أن تكون أكبر من كل الغوايات, هذه الفتنة خلقت لنا نحن الذي ألقت بنا الطبيعة على ضفاف البحرين بين المحيط والأبيض, مطلين على بعد أربعة عشر كيلومترا فقط على الأوربين, محفوفين بظل الرمال المتسربل في أرجلنا بالأفارقة, المسكونين هوسا بالانتماء إلى العرب رغم البعد ورغم الاختلاف ورغم كل الأشياء, والحالمين يوما بالانضمام إلى الشمال الذي نعتقده يشبه عقولنا سر انتمائنا للعبور أننا كنا دوما عابرين, وسر عشقنا للحظات المرور من هنا إلى هناك هو أننا نحمل في الجينات الأولى للتكوين آثار كل من سافروا إلى أن وصلوا هذه الأرض وهذا المكان. لعله السبب الذي يجعلني أعتقد دوما أن في دواخل كل مغربي إبن بطوطة صغير, يعشق الترحال والعبور كلما أتيحت له فرصة ذلك, ويهوى وضع أشعاره على رصيف قيامة كل هاته الرحلات. ياسين في الديوان ليس إلا واحدا منا أتقن القبض على تفاصيل هروبه المتكرر, فأسماها دفاتر للعبور, وجعلنا خلال هنيهات القراءة الرائقة لما أبدعه, ملزمين كل مرة بالسفر معه حتى الأمكنة التي لم نطأها ربما يوما, لكننا نعرفها خير المعرفة وإن بالسمع والإنصات. عمر واحد لايكفي أيتها الأسفار عمر واحد لا يكفي ياخطوط العرض أحتاج أعمارا متلاحقة كأنفاس...

السبت، 6 أكتوبر 2012

بين السينما والسياسة

طنجة. هبة نسيم لافح من جهة شرق لا أفهمه قرب البحر. فيلم متوسطي قصير أول وان وثالث. التماعة العين إذ تجد وسط الظلمة, ظلمة القاعات, حلاوة الفرجة الأولى مرة بعد المرة. نسرق الوقت من الوقت ونقرر أن الذهاب إلى مهرجان للسينما المتوسطية هو أفضل مايمكن القيام به وسط كل الضجيج المحيط بالعالم من كل مكان. شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال. بنكيران محاطا بالمعطلين في كل مدينة. مزوار وتعويضاته. الوفا وقفشاته اللاتنتهي حول الإعداديات التي لا يمتلكها أوباما. الزاكي, الطاوسي, المنتخب, الهزائم, الخيبات تلو الخيبات. هزائم الرياضة, هزائم السياسة, وهزائم الاقتصاد, ثم الهزائم الشخصية الصغيرة تلك التي يقال إنها ملح طعام هذه الحياة, والتي لانفهم لماذا تصر على العودة كل مرة إلى الواجهة. لذلك يبدو الأفضل هو الهروب إلى السينما. ألا يقولون في المبتذل من الكلام "من يحب الحياة يذهب إلى السينما"؟. بلى, يقولونها, لذلك لنذهب. في طنجة هاته الأيام نجد سينما من نوع آخر. فيلم واقعي أكثر من اللازم. فيلم يقوم ببطولته حزبان: العدالة والتنمية من جهة, والأصالة والمعاصرة من جهة ثانية. نقرر مرة أخرى أن الفرجة فرض عين على كل مغربي أينما ذهب, وأينما حل وارتحل ونتابع التفاصيل, بلقطاتها المكبرة, والأخرى البعيدة. بالفلاش باك الضروري كلما تعلق الأمر بالسياسة في المغرب لئلا يعتقد أحد أنها إبنة اليوم أو أنها إبنة حرام لا أب لها. بالمشاهد الخلفة المصورة بالأسود والأبيض, وبالأخرى ذات الألوان الناصعة التي تعيدك إلى الزمن الحالي وتقنياته الرقمية التي غيرت شكل العالم كله, ولم تستطع تغيير جزء صغير من عقولنا. ما هو رهان المعركة اليوم بين الحزبين الأساسيين في البلد؟ الصومعة التي انهارت يوما على رأس البيجيدي وذكرت الكل أن لدينا رموزا دينية من اللازم "تركها في التيقار" إذا ما أردنا تجنب اللعب بالنار, هي صومعة لم نعلق في منتهاها أي حجام. تركناها هي الأولى معلقة, وقلنا "لنعد الانتخابات في طنجة وفي مراكش". مع الوقت, ومع بدء الروتين في التسرب إلى القلوب والعقول من نكت الوزير الأول, الذي لم يستطع أن يتحدى الملل رغم التنويعات الكثيرة التي قام ويقوم بها, أصبحت للمعركة وجوه أخرى غير الوجه الأول. ولو دارت هذه الحرب الانتخابية قبل أشهر فقط لكان الفوز فيها دون أي إشكال حليف العدالة والتنمية, لكن العجلة دارت وإخوتنا دخلوا دار الطاعة, ودخلوا دار تسيير الشأن العام, واكتشفوا حقيقة ماكانوا يتحدثون عنه عن بعد, ففهموا أن الأمور ليست مثلما كانت تتراءى لهم قبل الوصول. هنا لعب أهل الأصالة والمعاصرة اللعبة جيدا, وفهموا أنها فرصتهم الأولى قبل الانتخابات الجماعية _ التي لانعرف إن كانت ستجرى في تاريخ محدد أم أنها متروكة مثل بقية أشياء البلد للصدفة البحت _ لكي يزعزعوا بعضا من قلاع العدالة والتنمية, وفي مقدمها طنجة ومراكش, مع االأهمية التي للمدينتين إن على مستوى الحجم أو السكان, وإن على مستوى وجود التيار السلفي المتطرف بهما. معنى الكلام من الختام هو أن أي مقعد قد "يختطفه" البام من المدينتين إشارة قوية أن المعركة لم تنته بالنسبة إليه. ومعنى الكلام من الجهة الأخرى أن الفوز بنفس الاكتساح الذي حققته لائحة بوليف والصومعة في السابق من الانتخابات بالنسبة للعدالة والتنمية دليل عافية ودليل عدم تصدع رغم الحكومة ورغم الاحتجاجات, ورغم كل الأشياء. بالعودة إلى السينما, عندما تكتب سيناريو لفيلم ما, تجرك الشخصيات بملامحها وطباعها أو مايسميه أهل الحرفة "الكاراكتير" إلى منعرجات قد لاتتوقعها قبل البدء في الكتابة. تترك _ إذا كنت راغبا في تتبع الأمر إلى نهايته _ لهاته الشخصيات ولهاته المامح أن تكتب عوضا عنك الفيلم وتطوراته والعقدة فيه والنهاية. في السياسة المغربية الأمر لا يختلف كثيرا. الكتابة الأولى وضعت نصا ما, وتطورات الملامح التي تعيشها كل شخصية من شخصيات السيناريو الأول تفعل فعلها مثلما تريد ذلك, ملما تعيشه ومثلما يبدو لها أنه من اللائق للأحداث أن تتطور. وتماما مثلما يقع في السنما المغربية التي تنسى أن لديها جمهورا تتوجه إليه, تنسى السياسة وكتاب السيناريو لها في البلد أن متفرجين يريدون متابعة لا تدفع بهم إلى الجنون, لحكاية لها بداية ولها عقدة ولها نهاية. مشكلة من يكتبون لنا السيناريوهات _ في السينما وفي السياسة وفي كل الحياة _ هي أنهم يكتبونها وهم في "حالة غير طبيعية" باستمرار. لذلك نثمل كلما تابعناها, ونستفيق في اليوم الموالي مسائلين النفس "واش هاد الشي طرا ولا غير جاب ليا الله"؟