الأربعاء، 3 أبريل 2013

نضال معاذ وفاطمة

‎أفضل قراراتخذه معاذ الحاقد بعد خروجه من السجن هو قرار مواصلة الدراسة من أجل الحصول على الباكالوريا. ‎ من العيب أن يلقى عليك القبض بتهمة، وأن تحاول ترويج صورة أخرى عن تهمتك في كل مكان بأن تدعي بأنك مناضل ضد النظام، وأنك تقود ثورة الشعب المغربي ضد الطغيان والفساد "ونتا ماعندكش حتى الباكالوريا" ‎شعبنا المغربي شعب طيب، نعم، لكنه ليس بهذا الغباء وبهاته السذاجة التي تجعله يقبل أي شيء. نعم آسيدي، نقبل أن يقود معاذ ثورتنا، ولكن بعد مروره من بعض المدارس والكليات، وبعد نيله لبعض الشهادات أو على الأقل بعد تعرفه على بعض المذاهب السياسية والإيديولوجيات، وتمكنه من تقديم تصور واف عما تختلج به الحياة السياسية العالمية والإقليمية من تطورات ومن مذاهب وأفكار وتصورات، "وديك الساعة مافيها باس". إذا أردت أن تقود الشعب المغربي نحو التحرر فلن يقول لك أحد "لا". ‎وحقيقة أشفق على الشعب المغربي الشقيق من هذا المصير المؤلم الذي يوجد فيه وقد تحول شاب مثل معاذ إلى رمز من رموز النضال. ‎ لا مشكلة لدي مع الشاب، وحتى أغانيه أو مايعتقد أنها أغانيه لا تروقني كثيرا، علما أنني من محبي الراب وأعرف "شي شوية" عن مدارسه من "البيغ نوتوريوس" ونتا جاي، لكن مايفعله معاذ يبدو لي "غواتا" أكثر منه أي شيء آخر علما أنني أحترم حق أي "منطيح" في الحياة أن يفعل بصوته وحلقومه وحنجرته (وبقية أعضائه الأخرى وهذا موضوع خلق لنا ضجيجا كثيرا مما لاداعي للخوض فيه مجددا) مايشاء، وأحرم على نفسي حق التدخل في هاته الأمور. ‎كل هذا لكي أقول إنني لامشكل لدي معه، سوى أنني أتوقع من شعبنا أن ينتج من أهو أكبر منه مقاما وقيمة لكي يقود ما يصطلح عليه في الأنترنيت المغربي اليوم "ثورة الشعب ضد الفساد والاستبداد". ‎ومادام القرار بالقرار يذكر، فأنا أعتقد أن أفضل قرار اتخذته زميلتنا فاطمة الإفريقي هو قرار التوقف عن الكتابة هي الأخرى. ‎ ذلك أنني قرأت مقالها الأخير "المقال الأخير" وتمعنت في محتوياته جيدا، وحاولت أن أعرف الجهة التي هددتها، فوصلت إلى خلاصة تؤدي إلى عدة جهات أطرحها أمام الرأي العام في إطار مساعدته على التعرف على هؤلاء المجرمين الذين هددوا زميلتنا في حياة أبنائها ودفعوا جماعة مثل العدل والإحسان إلى إعلان التضامن معها "كاع". ‎هناك أولا الجهة التي يوجه إليها الاتهام باستمرار في مثل هاته النوازل أي "المخزن"، والمخزن في المغرب أنواع، وأهمها وأشهرها وأكثرها قربا إلى الناس هو "مخزن الحبوب" أي "الخزين" بالدارجة الذي كنا نخفي فيه مانعول على العودة إليه من أجل مواجهة فصل البرد والشتاء من قطان تهلك المصارين وتصدرأصواتا غريبة حين وصولها إلى الأمعاء. ‎ ثم هناك المخزن المتنقل، وهذا النوع من المخزن تجده في الطرقات، وهو يعني فرقة من المخازنية الذين يتنقلون مثلما يدل على ذلك الإسم بكل مباشرة. ‎ويأتي في المرتبة الثالثة المخزن الذي قال عنه اليازغي الأب ذات يوم في التلفزيون إنه مات‫.‬ وهذا المخزن بالتحديد صعب التحديد، ولن تجد مغربيين إثنين يتفقان على تعريف قار له, حتى من بين أولئك الذين يقولون عن أنفسهم إنهم يهاجمونه باستمرار, لذلك نتركه في حاله ونبحث عن جهات أخرى قد تكون هددت زميلنا وفرضت عليها هذا التوقف الاضطراري العجيب. ‎قد يتعلق الأمر ب "أكمي" أي تنظيم القاعدة في بلاد المغربي العربي"، وهو تنظيم تعود تهديد عباد الله باستمرار هذه الأيام. وقد يتعلق بكوريا الشمالية، وقد هددت جارتها الجنوبية بقصفها هي وكل حلفائها، مايعني أنه من اللازم عدم إقصاء هاته الجهة من المشتبه فيهم في مسألة التهديد هاته. وهناك وزير الشباب والرياضة الذي يهدد منذ أن وصل إلى منصبه بعزل علي الفاسي الفهري، وحل جامعة الكرة دون أن يستطيع القيام بالمسألة، مايعني أنه محترف تهديدات ليس إلا ومن الممكن أن يكون واحدا ممن فعلوها بفاطمة "الله يرد بيها والسلام". ‎نأتي الآن إلى أفضل قرار كان يمكن أن يتخذه العبد لله اليوم وهو أن أكتب عن زيارة هولاند للمغرب أو عن منتخب الكرة أو عن شعبية بنكيران، أو عن أي شيء من هذه الأهمية، لكني اخترت الكتابة عن معاذ وعن فاطمة وعما يعتمل في الأنترنيت المغربي من بطولات وهمية. ‎لسبب وحيد وأوحد هو أن البلد أصبح بالفعل محتاجا لرموز من أي نوع ما يصنعها, وإلا فإنه سيضطر لعملية الاصطناع القاتلة هاته التي تجتاحه هذه الأيام. ‎هل أخطأت الاختيار مرة أخرى؟ أكيد. لكنكم تعودتم مني الأمر, لذلك لا إشكال.

الاثنين، 22 أكتوبر 2012

ضد التبعبيع الجماعي

العيد على الأبواب. وبالحساب الرقمي المضبوط, ثلاثة أيام فقط هي التي تفصلنا عن العيد الذي يسميه المغاربة "العيد الكبير". كلمة الكبير هنا تغني عن أي نقاش, وتحيلنا على المكانة التي يعطيها شعبنا لعيد الذبح واللحم هذا. جولة صغيرة في كل مكان كافية أيضا لكي تنقل الأجواء الغريبة التي ينخرط فيها الجميع. سكاكين تشحذ هنا, و"شواقير" يعاد التأكد من حدة نصالها هناك. شوايات من مختلف الأحجام والألوان والأشكال, تباع لكل راغب في إشعال النار يوم العيد, وعطرية منها المهرب الذي ثبت أنه ضار صحيا, ومنها البلدي المصنوع "على اليد", و"على حقو وطريقو" من أجل مواكبة الاحتفالات باللحوم الحمراء التي ستدخل بطون الفقراء المغاربة هذا الأسبوع. ثم هناك القروض. اقتراحات في كل مكان, تبدأ بسعر الأضحية دون فائدة, وتمتد إلى إهدائك ثلاجة أو "شي عجب آخر" إذا ما قررت المغامرة بمبلغ زهيد كل شهر من أجل مبلغ تدفعه لك شركة القرض تلافيا لأي نوع من أنواع الإحراج مع الجيران أو مع الأهل أو من الأغراب أيضا طالما أن حكاية العيد الكبير في بلدنا هي حكاية الجميع دونما استثناء, وإلا مامعنى أن تكون عابرا بخروفك في الشارع, فيسألك الجميع "بشحال داك المبروك؟", دون أن يحسوا بأنهم يتطفلون عليك, أو أنهم يسألونك عن خصوصية لا دخل لهم بها نهائيا. ومع كل الأجواء المرحة وأحيانا المضحكة التي ترافق هذا العيد الكبير, لابد من ملاحظة بعض الأشياء غير السارة كثيرا التي يجب التوقف عندها. هذه الرغبة الغريبة في الانتحار المادي من طرف أناس غير قادرين على العيد. هذه الروح البدائية التي تعود لكي تهجم على شوارعنا من خلال مشاهد التبن والعلف والبصل الذي يباع في الشوارع, وأيضا من خلال رائحة الغنم التي تصبح عادية في كل مكان هاته الأيام. هذا الابتعاد الفج عن معنى الأضحية في عيد الأضحى, والتنافس بشكل مخجل ومهين بيننا جميعا حول من سيشتري "الحولي الأكبر", وحول من سيبلغ "راس السوق", وحول من "سيطير بالمليح أو سيطير المليح به" الله أعلم. هذه الظواهر المشينة التي تشهدنا ونشهدها كل عيد, والتي تزداد بفعل الجهل المطبق على المجتمع استفحالا عاما بعد الآخر, ثم طبعا تلك المشاهد الخرافية فعلا لشعب يتحول كله إلى جزار يوم العيد, متجولا بالسكاكين في كل مكان والدماء تعلوه وتعلو محياه, معلنا الرغبة في المزيد من الذبح والمزيد من السلخ والمزيد من كل هاته الأشياء. كل هاته الأمور يجب أن تجد من يقول لها كفى في مجتمعنا, فإن لم تجد فعلى الأقل يجب أن تجد من يقول لها إنها مشينة على الأقل. كبار القوم وعليتهم, يهربون من هذا العيد لأنهم يعتبرونه بلا معنى عكس فقراء الناس, وطبقة متوسطة _ تكبر يوما بعد يوم _ أصبحت تحس أن اصطحاب خروف _ مهما كان ذلك الخروف طيبا وجميلا ورطب الصوف, ولذيذ اللحم _ إلى العمارة بين الجيران مسألة غير عملية كثيرا, خصوصا وأن الأمر يتعلق بسنة فقط وليس بفرض, وهو مايعني أنه من الممكن طرح السؤال بصيغة أو بأخرى حول إمكانية الاستغناء عن هذا العيد بشكل كامل, والاكتفاء بالواجب الديني للقادرين عليه, شرط تصديق الأضحية على الفقراء المحتاجين, مع العلم أن ولي أمر المسلمين في هذا البلد يذبح أصلا نيابة عن غير القادرين من أبناء شعبه. علماء الدين في البلد الذين يشغلون بالهم بمسائل لا نعرف مدى أهميتها ملزمون بالخروج على الناس في مثل هاته المناسبات لكي يتحدثوا بصراحة, ولكي يقولوا إن كثيرا من ظواهر هذا العيد بالتحديد ليست من الإسلام في شيء, وأن ديننا الذي يحرم إلقاء النفس في التهلكة, يمنع منعا كليا على من لا يستطيع شيئا أن يأتي به, ودورهم ثابت في هذا الباب, لكنهم لا يقومون به, ويفضلون الاهتمام بأشياء لانعرف سبب هوسهم بها, مايعني أنهم بعيدون عن ناسنا, وبعيدون عن شعبنا وبعيدون عن كل مايمس الأهل بالفعل في الأمور الحياتية المهمة التي تؤثر على العام كله. هناك اليوم دعوة في الفيسبوك أطلقت على نفسها إسم "مامعيدينش", لا أعرف ملابساتها ولا السبب الذي جعلها تختار هذا التوجه, لكن أحدا لا يستبعد أن تكون كل هاته الأسباب التي ذكرناها مجتمعة هي علة خروج هذه الصفحة إلى الوجود, وأعترف أنها دعوة تلاقي في النفس لدى العديدين كثير الهوى, وأنها عكس دعوة الإفطار في رمضان ترتكز على معايير موضوعية ومجتمعية ودينية من الممكن أن تجعل الموضوع قابلا للنقاش, شرط القدرة على هذا الأمر فعلا. في حال العكس, أي عدم القدرة على مناقشة الأمر سيكون الحل هو المزيد من "التبعبيع" والسلام.

الخميس، 18 أكتوبر 2012


دفتر العابر

مليئة بالمطبّات
 وكانت النجوم التي ترصّع سماء الرحلة
شاحبةً كجمرٍ مُنهَك
 كنارٍ مضرّجة بالدماء 

لم تكن شقياً بسبب ذلك 
كنتَ فقط تشعر بالبرد 
لم تكن شقياً ولا حزيناً
 رغم إسفلت السهرة المتشقق ورغم الأشجار
التي حلّقت بعيداً باتجاه خريطة أخرى 
ورغم مرايا الغبطة التي انكسرت داخلك 

يرن جرس الباب. مشهد ساعي البريد غير مألوف لدي. قلت لياسين في الكلام الذي تبادلناه يوما إنني تعودت البريد الإلكتروني وأني لم أعد قادرا على مجاراة البريد التقليدي في هبائه، لذلك استغربت أن يرن الهاتف الداخلي للمنزل وأن أطل من الكاميرا التي تكشف كل شيء، فأرى رجلا يتأبط طردا بريديا يقول لي إنه قادم من مراكش 
فتحت له الباب بزر إلكتروني بعيد. تأملت في المفارقة الكامنة بين الإثنين، وانتظرت صعوده. أتى محملا بدفاتر عبور ياسين. 
تلقفت الهدية مثل أي مشتاق لمعرفة المفاجأة الكامنة في تلافيفها. 
توعدني ياسين في الإهداء ببعض الظلال قائلا بأنني سأجد بعضا مني فيها. في الحقيقة لم أجد هذا البعض. وجدتني كاملا فيما خطه هذا الفتى الآسر المسمى ياسين. 
هل قلت لك يوما إن دفاتر عبورنا جميعا ستكتب على صفحات هذا الفيسبوك اللعين؟ أو تعلم أنك، أننا نؤسس للقادم من الكتابة بهاته الخربشات المخطوطة على موقع زوكربيرغ العجيب؟ 
لا أدري، لكنك حرمتني النوم ليل العودة من مراكش. رأيت المنتخب، وعدت منتشيا بالانتصار الوهمي بالرباعية، في الغد أتى الحامل لبريدك متأبطا خيره ومتأبطا الديوان الجميل. 
متعب أنا بعد العودة من الحمراء، لكن غواية القراءة أقوى أحيانا من الغواية التي على بالك، لذلك بدأت و لم أنته إلا وأنا أردد "أكتب لنا المزيد من دفاتر العبور ياهذا"
 سألتك بالله أيها القمر المشدود إلى الغيمة العذراء متى تغيب ليعم العماء فننعم وننسى قليلا كم نكره بعضنا ننسى الزياتين التي على جنبات الطرق ننسى طعم زيتها المر وأوراقها التي يبست في بطون الكتب لرحلة ياسين في الأرض سبب وجيه. لرحلة الفتى المراكشي الهوى والانتماء في الدنيا كلها أكثر من علة تجد نفسها في دفتر العبور هذا. كنت دائما أسأل النفس مع كل عبور جديد إن كنا سنجد يوما من يؤرخ للحظات السفر المتعددة نحو مختلف الوجهات ساعاتها. أتى الجواب عبر هاته الدفاتر, يحث الخطو نحو كل مكان وطأه الشاعر, يجد فيه بعضا من ملابسات العيش ذات زمان, وكثيرا من مسببات الحكي لمن لم يكن معه في ذلك المكان. هل هو التأريخ بالشعر للرحلات؟ لا أدري. وقد يكون لياسين تبرير آخر للأمر, لكنني وجدت في الدفتر آثار المرور من هنا ومن هناك, ووجدت فيه مثلما سيجد القارئ بكل تأكيد علامات الاتصال. من باريس إلى بروكسيل مرورا ببازل وبرلين ففرانكفورت وقرطبة ثم الإبحار طيرانا إلى هيثرو في لندن في مطارات العبور نعلق شخيرنا على أول بوابة لكيلا يصدأ بين جفوننا النعاس نترجل عن غيومنا وسماواتنا نخبئ الأقكار في محاجرنا نبحث عن مدافن هشة لظلالنا ونتخفف تماما من جنون السفر وكأي أندلسي عابر من إفريقيا بعروبة الأمازيغ المنتمين إلى كل الأجناس التي مرت يوما على هاته الأرض, والمسمى بالاختصار المفيد "مغربيا", لا يمكن لغواية السفر إلا أن تكون أكبر من كل الغوايات, هذه الفتنة خلقت لنا نحن الذي ألقت بنا الطبيعة على ضفاف البحرين بين المحيط والأبيض, مطلين على بعد أربعة عشر كيلومترا فقط على الأوربين, محفوفين بظل الرمال المتسربل في أرجلنا بالأفارقة, المسكونين هوسا بالانتماء إلى العرب رغم البعد ورغم الاختلاف ورغم كل الأشياء, والحالمين يوما بالانضمام إلى الشمال الذي نعتقده يشبه عقولنا سر انتمائنا للعبور أننا كنا دوما عابرين, وسر عشقنا للحظات المرور من هنا إلى هناك هو أننا نحمل في الجينات الأولى للتكوين آثار كل من سافروا إلى أن وصلوا هذه الأرض وهذا المكان. لعله السبب الذي يجعلني أعتقد دوما أن في دواخل كل مغربي إبن بطوطة صغير, يعشق الترحال والعبور كلما أتيحت له فرصة ذلك, ويهوى وضع أشعاره على رصيف قيامة كل هاته الرحلات. ياسين في الديوان ليس إلا واحدا منا أتقن القبض على تفاصيل هروبه المتكرر, فأسماها دفاتر للعبور, وجعلنا خلال هنيهات القراءة الرائقة لما أبدعه, ملزمين كل مرة بالسفر معه حتى الأمكنة التي لم نطأها ربما يوما, لكننا نعرفها خير المعرفة وإن بالسمع والإنصات. عمر واحد لايكفي أيتها الأسفار عمر واحد لا يكفي ياخطوط العرض أحتاج أعمارا متلاحقة كأنفاس...

السبت، 6 أكتوبر 2012

بين السينما والسياسة

طنجة. هبة نسيم لافح من جهة شرق لا أفهمه قرب البحر. فيلم متوسطي قصير أول وان وثالث. التماعة العين إذ تجد وسط الظلمة, ظلمة القاعات, حلاوة الفرجة الأولى مرة بعد المرة. نسرق الوقت من الوقت ونقرر أن الذهاب إلى مهرجان للسينما المتوسطية هو أفضل مايمكن القيام به وسط كل الضجيج المحيط بالعالم من كل مكان. شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال. بنكيران محاطا بالمعطلين في كل مدينة. مزوار وتعويضاته. الوفا وقفشاته اللاتنتهي حول الإعداديات التي لا يمتلكها أوباما. الزاكي, الطاوسي, المنتخب, الهزائم, الخيبات تلو الخيبات. هزائم الرياضة, هزائم السياسة, وهزائم الاقتصاد, ثم الهزائم الشخصية الصغيرة تلك التي يقال إنها ملح طعام هذه الحياة, والتي لانفهم لماذا تصر على العودة كل مرة إلى الواجهة. لذلك يبدو الأفضل هو الهروب إلى السينما. ألا يقولون في المبتذل من الكلام "من يحب الحياة يذهب إلى السينما"؟. بلى, يقولونها, لذلك لنذهب. في طنجة هاته الأيام نجد سينما من نوع آخر. فيلم واقعي أكثر من اللازم. فيلم يقوم ببطولته حزبان: العدالة والتنمية من جهة, والأصالة والمعاصرة من جهة ثانية. نقرر مرة أخرى أن الفرجة فرض عين على كل مغربي أينما ذهب, وأينما حل وارتحل ونتابع التفاصيل, بلقطاتها المكبرة, والأخرى البعيدة. بالفلاش باك الضروري كلما تعلق الأمر بالسياسة في المغرب لئلا يعتقد أحد أنها إبنة اليوم أو أنها إبنة حرام لا أب لها. بالمشاهد الخلفة المصورة بالأسود والأبيض, وبالأخرى ذات الألوان الناصعة التي تعيدك إلى الزمن الحالي وتقنياته الرقمية التي غيرت شكل العالم كله, ولم تستطع تغيير جزء صغير من عقولنا. ما هو رهان المعركة اليوم بين الحزبين الأساسيين في البلد؟ الصومعة التي انهارت يوما على رأس البيجيدي وذكرت الكل أن لدينا رموزا دينية من اللازم "تركها في التيقار" إذا ما أردنا تجنب اللعب بالنار, هي صومعة لم نعلق في منتهاها أي حجام. تركناها هي الأولى معلقة, وقلنا "لنعد الانتخابات في طنجة وفي مراكش". مع الوقت, ومع بدء الروتين في التسرب إلى القلوب والعقول من نكت الوزير الأول, الذي لم يستطع أن يتحدى الملل رغم التنويعات الكثيرة التي قام ويقوم بها, أصبحت للمعركة وجوه أخرى غير الوجه الأول. ولو دارت هذه الحرب الانتخابية قبل أشهر فقط لكان الفوز فيها دون أي إشكال حليف العدالة والتنمية, لكن العجلة دارت وإخوتنا دخلوا دار الطاعة, ودخلوا دار تسيير الشأن العام, واكتشفوا حقيقة ماكانوا يتحدثون عنه عن بعد, ففهموا أن الأمور ليست مثلما كانت تتراءى لهم قبل الوصول. هنا لعب أهل الأصالة والمعاصرة اللعبة جيدا, وفهموا أنها فرصتهم الأولى قبل الانتخابات الجماعية _ التي لانعرف إن كانت ستجرى في تاريخ محدد أم أنها متروكة مثل بقية أشياء البلد للصدفة البحت _ لكي يزعزعوا بعضا من قلاع العدالة والتنمية, وفي مقدمها طنجة ومراكش, مع االأهمية التي للمدينتين إن على مستوى الحجم أو السكان, وإن على مستوى وجود التيار السلفي المتطرف بهما. معنى الكلام من الختام هو أن أي مقعد قد "يختطفه" البام من المدينتين إشارة قوية أن المعركة لم تنته بالنسبة إليه. ومعنى الكلام من الجهة الأخرى أن الفوز بنفس الاكتساح الذي حققته لائحة بوليف والصومعة في السابق من الانتخابات بالنسبة للعدالة والتنمية دليل عافية ودليل عدم تصدع رغم الحكومة ورغم الاحتجاجات, ورغم كل الأشياء. بالعودة إلى السينما, عندما تكتب سيناريو لفيلم ما, تجرك الشخصيات بملامحها وطباعها أو مايسميه أهل الحرفة "الكاراكتير" إلى منعرجات قد لاتتوقعها قبل البدء في الكتابة. تترك _ إذا كنت راغبا في تتبع الأمر إلى نهايته _ لهاته الشخصيات ولهاته المامح أن تكتب عوضا عنك الفيلم وتطوراته والعقدة فيه والنهاية. في السياسة المغربية الأمر لا يختلف كثيرا. الكتابة الأولى وضعت نصا ما, وتطورات الملامح التي تعيشها كل شخصية من شخصيات السيناريو الأول تفعل فعلها مثلما تريد ذلك, ملما تعيشه ومثلما يبدو لها أنه من اللائق للأحداث أن تتطور. وتماما مثلما يقع في السنما المغربية التي تنسى أن لديها جمهورا تتوجه إليه, تنسى السياسة وكتاب السيناريو لها في البلد أن متفرجين يريدون متابعة لا تدفع بهم إلى الجنون, لحكاية لها بداية ولها عقدة ولها نهاية. مشكلة من يكتبون لنا السيناريوهات _ في السينما وفي السياسة وفي كل الحياة _ هي أنهم يكتبونها وهم في "حالة غير طبيعية" باستمرار. لذلك نثمل كلما تابعناها, ونستفيق في اليوم الموالي مسائلين النفس "واش هاد الشي طرا ولا غير جاب ليا الله"؟

الأحد، 26 غشت 2012

ولاء و"ولاء"

النقاش الذي أثير في المغرب حول حفل الولاء, نقاش يستحق الكثير من الاهتمام, وإن انتهى نهاية لاتليق ببلد مثل بلدنا تعود على كبير النقاشات دون كثير إشكال. اليوم السؤال يطرح نفسه بحدة وبصوت مرتفع, وأيضا بكل شجاعة: هل ينبغي الإبقاء على الطقوس المرافقة للاحتفال بعيد العرش كل سنة؟ بالنسبة للعديدين, هم ربما أغلبية هذا البلد, وكاتب هذه الأسطر منهم, الجواب هو نعم. لدينا تقاليدنا التي لم نر فيها في يوم من الأيام أي انتقاص من كرامة أو امتهانا لإنسانية أو آدمية, بل اعتبرناها من التوابل المرافقة للمشهد المغربي العام, تمتح كل جمالياتها من الألوان المرافقة لمشهدنا العام, والتي تأخذخا من هذا المشهد نفسه. عشنا في البلد لسنوات وسنوات على المشهد لانرى فيه أي عيب, ولم نتخيله منظر عبودية أو ارتفاع شخص عن آخرين, بل كان بالنسبة للمغاربة طقسا من طقوس بلدهم, يشبه الطقوس التي يرونها في البلدان الأخرى, حين يرتدي نواب بريطانيا باروكات الشعر مثلا, أو حين يقبل الروسيون بعضهم البعض من الأفواه, أو حينما يلتقي الخليجيون بالأنوف مع بعضهم البعض. اليوم هناك رأي ثان يعبر عن نفسه, انطلق مما وقع في العالم العربي لكي يقول إن مايقع في حفل الولاء عبودية وامتهان للناس, ويطالب بمنع الحفل أو إلغائه أو النقص من الطقوس المرافقة فيه. لنتفق أنه من حق أي كان أن يعبر عن رأيه, وأنه من المفروض اليوم أن نفتح هذا النقاش بصوت مرتفع بين الجميع, وأن ننصت لكل الآراء, وأن نتيح لأصواتنا المختلفة بأن تقول ماتريده, وأن لا نصادر حق بعضنا البعض في التعبير عن الرأي والرأي الآخر. معنى عدم المصادرة هو أن لانعتبر المدافعين عن بقاء واستمرار حفل الولاء "ممخزنين", أو "منبطحين" أو "راغبين في التسلق", وأن لانعتبر بالمقابل الراغبين في إلغاء الحفل أو النقص منه أعداء للوطن يبحثون عن منافذ لتسريب الفتنة إلى البلد. لا, العقل السليم يفترض أن ننصت للجميع, وأن نتيح للحوار أن يتم, وأن نتفادى ماوقع يوم الأربعاء من الجهتين: الجهة التي اعتبرت أن تنظيم وقفة احتجاجية من شأنه أن يمس حفل الولاء وأن يلغيه فعلا, والجهة التي اعتبرت أن الرد على الوقفة الاحتجاجية يكون بضرب المشاركين فيها وتفريقهم بالعنف لئلا يتمادوا في غيهم. المشهد كان مخجلا بالفعل يوم الأربعاء حيث تأكدنا أن ثمة رغبة من جهتين معا في تأزيم الوضع في بلد لا يقبل بهذا التأزيم, ولا يريده, ويعبر بكل ما يمتلك من قوة أنه يريد الإصلاح الديمقراطي كله, لكن يريده بسلم. الجهة الأولى هي جهة المعارضين للمسار العام التي لاتستطيع التعبير عن نفسها, والتي تعد أقلية بالفعل في البلد , ورغم ذلك تحرص على لأن تسمع صوتها بطرق متشنجة بعض الشيء, من أجل الوصول إلى هدف اتضح ويتضح كل يوم أنه غير ممكن في المغرب. الجهة الثانية تنسى أننا محصنون في المغرب ضد مايريده الأوائل, وتسعى إلى الرد على التشنج بتشنج أكبر منه, وتنتج لنا المشاهد التي تناقلها العالم أجمع لشرطتنا وهي تضرب صحافيا أتى ليغطي الوقفة, أو لبوليسنا وهو يردد عبارات سيئة في حق ناشطين سلميين مهما كانت مطالب هؤلاء الناشطين. لانحتاج في المغرب اليوم إلى شيء أكثر من احتياجنا للاعتدال في كل نقاشاتنا, وبالتحديد في هذا النقاش الهام, مثلما نحتاج إلى عدم الحديث باسم الشعب لأننا رأينا عدد من حضروا الوقفة يوم الأربعاء, وأيضا نحتاج إلى عدم شيطنة من يريدون التعبير عن رأيهم المعاكس لرأي أغلبية المغاربة ماداموا في طور التعبير السلمي عن الموضوع ككل. شيء آخر لابد من قوله في هذا الموضوع. المغاربة أسسوا لتاريخهم بطريقتهم الخاصة, وكونوا كثير العادات والتقاليد في تسيير شأنهم العام وشأنهم الخاص, وعلاقتهم بعرشهم وبملكهم. واليوم نستطع القول بكل شجاعة وافتخار أن الملك الحالي لايشبه من سبقوه لأن دلائل انفتاحه وإيمانه بالحرية وبالآراء المختلفة مسألة لم تعد تحتاج إلى برهان, وهي التي تتيح للبلد اليوم كل انتقالاته السلمية نحو الديمقراطية الفعلية التي يستحقها شعبنا, لذلك يجب أن يكون نضجنا كبيرا في التعامل مع هذه المسألة الإيجابية لئلا نفقدها كل الجوانب المضيئة فيها, وندفع نحو تأزيم لا حاجة لنا به نهائيا. ولاؤنا لهذا البلد. ولو وضعنا هذه المسألة نصب العين فعلا, لن نجد أي مشكل في تحديد علاقتنا بكل الولاءات الأخرى. هذا هو أس النقاش بالفعل

الاثنين، 13 غشت 2012

عائد إلى الصحراء

خايبة بنادم يهضر قبل من الفطور. لعل بنكيران يقولها لنفسه الآن بعدما لم يلتقط المستمعون والمشاهدون من خطابه أمام مجلس المستشارين إلا عبارة "الجوع باقي كاين فالمغرب". إلى الدرجة التي جعلت العديدين يقولون تعليقا على عبارة عبد الإله "إن صوم رمضان فرض عليه اللجوء للقاموس المطبخي هذا". لكن "بيناتنا" ودون ضحك "دابا", يجب الاعتراف فعلا أن مناطق في المغرب تعيش مايفوق الجوع بالفعل, وأن هناك مواطنين لنا تركناهم في الهوامش وفي هوامش الهوامش, منسيين تماما إلا من رحمة الذي لا ينسى أحدا, أي الخالق جلا وعلا. رحلة الصيف قادتني لبعض هاته المناطق, واكتشفت أنه من الممكن تدبر أمر الشهر كله بخمسمائة درهم. صدقوا أو لا تصدقوا. هناك مواطنون مغاربة كل مايصلهم الشهر كله هو هذا المبلغ, ورغم ذلك يعيشون, ويأكلون ويشربون قدر المستطاع فعلا, لكن الأساسي هو أنهم يعيشون. وحين يتحلقون في المساء حول إبريق شاي يعطيك الإحساس أنه مر من كل الحروب العالمية التي عبرت الكون, يضحكون. لا يكتفون بالابتسامات الصفراء المنافقة التي يتبادلها أهل المدن العمملاقة فيما بينهم. لا,هم يقهقون حتى يتبدى أثر الأسنان التي فعل بها الزمن الغريب فعله, ولا يكترثون. تسألهم عن الغد, عن المستقبل, عن الأشياء التي نعتقد _ ونحن نخطط هباء لها لكأننا سنعيش أبد الدهر _ أننا نفعل جيدا بضبطها, فيردون بالنظر إلى فوق مع الإشارة العفوية من الأصبع الموحد للسماء أن "غدا ربي بوحدو اللي عارف شنو غادي يوقع فيه". في مكان ما قرب الصحراء, غر بعيد عن مولاي علي الشريف, أناس من عمق العمق, طيبوبتهم قاسية حد عدم التحمل. جديتهم لا توصف. المعقول كلمة يستعملونها في المعيش اليومي, وليس فقط في الحملات الانتخابية مثل البعض, لايملكون شيئا يهدونه إليك غير تمرات رطبة شهية من عين المكان, تنزل مباشرة من النخلة إلى أمعائك. في مذاقها ملوحة لا تناسب الحلاوة التي ترافقها. هي ملوحة العيش وسط التهميش ووسط الفقر, ووسط النسيان. تأتي إلى هؤلاء الناس أخبار المدن العملاقة مرة بعد الأخرى. يسمعون عن الشقق الغالية, وعن السيارات التي تساوي ثمن الشقق وعن سكان المدن الذين يحيون "بالكريديات". ترى الابتسامة وقد علت المحيا منهم, وترى الإيمان بأنهم محظوظون رغم كل شيء, في أنهم قد نفذوا من المصيدة ولم يقعوا في حبالها, وقد غزا الملامح المسمرة التي تشكلهم. يقول كبيرهم على شكل حكمة بليغة للغاية يوم الوداع "الجوع ماشي ماتلقاش شنو تاكل وشنو تشرب آولدي. الجوع الحقيقي هو أنك تبقى غير كتجري حياتك كلها". لهم البقاء, ولهم القدرة على صفع الحضارة الزائفة بحضارتهم الفعلية واللاتزول. تحاورهم _ باعتبارك صحافيا زعما _ عن الأشياء التي تنقصهم في ذلك المكان البعيد. يسردون عليك أقاصيص العيش الصعب مع المستشفيات والمقابر. تقول إن هناك أشياء أجدر بالحكي عنها غير المرض والموت, فيبتسمون ببداهة طيبة مرة أخرى, ويقولون إنهم يتدبرون أمر كل الأفراح والمصاريف التي تأتيهم من أجل أشياء الحياة, ويصبرون بخصوصها كثيرا, بل غالبا مايطبقون تجاهها المثل الشهير "كم حاجة قضيناها بتركها", ويمضون. لكن في الأحداث الأليمة. حين تمرض لك أم كبيرة ولا يسعك إلا أن تنصت اليوم بطوله لآهاتها وهي تمزق أحشاءك, حين يصرخ صبي ولد بالكاد ولا تعلم ما الذي ينبغي أن تفعله من أجله, وعندما يسلم الأعزاء الروح فتفكر في الكيلومترات الطويلة التي عليك أن تقطعها من أجل أوراقهم الثبوتية التي تؤكد الحياة والممات وتؤكد العبث قبل وبعد كل الأشياء, حينها تحس بقسوة العيش في هذا المكان, ويبدو لك المتحدثون في التلفزيون عنك وعن مشاكلك كذبة من طراز رفيع حينها فقط تسألة نفسك بحرارة ولوعة "واش حتى حنا مغاربة؟ وواش حتى حنا محسوبين على هاد البلاد؟". لاتجد ردا مفحما ولا جوابا حقيقيا يليق بالسؤال وقسوته, فتحزن مجددا وأنت تلمح في أعين العائدين من المدن بعد الدراسة والتحصيل إلى جحيم البطالة القاتل الكثير من الحقد على كل الأشياء. يختزلون العالم كله في جملة "اللي عندو الزهر ولا ماعندوش", ويعرفون أن الحياة العجيبة خلقتهم دون حظ منذ الوهلة الأولى هناك, وفرضت عليهم أن يقاسوا مرتين من أجل العيش ومن أجل قليل من هاته الحياة. والعودة تستحث خطاها من هناك, كانت صورهم جميعا تترى الواحد بعد الآخر. ملامحهم التي تشبه ملامح الأجداد والأصل الأول تقول كل شيء: سمرة عصية على الوصف, وتجاعيد في أماكن غير متوقعة, وإصرار على المضي قدما مهما كلفت محاولة العيش أو التعايش هاته من ثمن...دون نسيان الأهم: الابتسامة الطيبة المرافقة لكل هذا الحزن وكل هذا الشجن. لهم البقاء, فهم حقا كل الامتداد

الثلاثاء، 7 غشت 2012

صورة بلد في الختام

والكل يستمع لسعيد عويطة على "الجزيرة الرياضية" يتحدث عن المنشطات في ألعاب القوى المغربي, وعن "الوسخ" مثلما قال الذي يحيط بكل مكان في الرياضة بالمغرب اليوم, تمنيت لوهلة صغيرة أن يسكت الرجل. لا أعرف لماذا, ولست من أنصار "خللي داك الجمل بارك", وأعتبر أن مهمة الصحافة هي أن تفضح المستور, لكن على شاشة "الجزيرة الرياضية", ووسط كل لحظات السقوط المدوي لأبطالنا أو لمن هم في حكم أبطالنا خلال الأولمبياد, وقبله وبعده بكل تأكيد, تمنيت من سعيد أن يسكت. الرجل طبعا لديه حسابات عالقة مع جامعة ألعاب القوى, أو لنقلها بصراحة لديه حسابات مع عبد السلام أحيزون شخصيا, وإذ يمكن تفهم العداوات الشخصية المبنية على تضارب الحسابات, لا يمكن نهائيا تفهم تصفية الحساب عبر قناة أجنبية ضد بلد بأكمله. العرب الذين كانوا يشاهدون نقل الجزيرة الرياضية لمنافسات ألعاب القوى, لايعرفون أن عويطة كان مديرا تقنيا لمنتخب المغرب تصادم مع عبد السلام أحيزون رئيس الجامعة, وغادر البلد غاضبا لاعتبارات كثيرة ليس هنا أوان ذكرها. العرب الذين كانوا يتابعون ذلك النقل المباشر, وكانوا ينصتون لعويطة يجلد بلده بالمباشر, فهموا شيئا واحدا لاغير: المغرب بلد فاسد ممتلئ بمجرمين يعطون للرياضيين فيه المنشطات, وكفى. كان ممكنا لعويطة أن يتعالى عن تصفية الحساب الشخصي لحظتها. كان ممكنا له أن يربط الإخفاق المغربي بالإخفاق العربي العام. أن يذكر من يحدثه من معلقي الجزيرة ومن ينصتون إليه من مشاهديها أننا فعلا في الهم شرق, وأن الدول أحرزت حتى اليوم السادس أو السابع من المنافسات عشرات الميداليات من كل المعادن, وأن "الكسيحين" الوحيدين في العالم الذين توقف حصادهم عند نحاسية يفخرون بها, وفضية يغنون لها هم العرب بمختلف تشكيلاتهم _ مع الشك في صحة نسبتنا جميعا إلى هذا الوصف رغم أننا نتحدث لغته ونكتب بها _ كان ممكنا أيضا لسعيدنا الوطني أن يقول إن مشكلة المنشطات هي مشكلة عالمية تهدد الرياضة في مختلف الدول, وأن نموذج البطل الذي كنا نعتبره خرافيا لانس أرمسترونغ في رياضة الدراجات والذي ثبت تعاطيه للمنشطات في الولايات المتحدة هو أفظع نموذج على مايقع اليوم في هذا المجال. كان ممكنا لعويطة أن يناصر مريم العلوي السلسولي وأمين لعلو والبقية _ وإن كان الشك لازال مخيما على الموضوع ككل _ وأن يقول بأن ضغط النتائج وعدم وجود مرافقين نفسيين للاعبين, وكل الانتقادات التي توجه للعدائين في المدة الأخيرة بكونهم لم يعودوا قادرين على شيء, بالإضافة إلى حداثة السن, كل هذاا قد يجعل البطل يضعف, ويمر إلى لحظة تناول شيء ما قد يساعده في لحظات السباق كان ممكنا لعويطة أن يقول إنه ينتظر التأكد من الخبر, ومن صحة أو عدم صحة تناول أبطالنا للمنشطات, وبعدها سيتحدث. كان ممكنا الكثير, إلا الاختيار الذي اختاره سعيد _ سامحه الله _ خصوصا حين قام معلق الجزيرة الرياضية الذي كان يرافقه بتقديم الحديث عن المنشطات والمغرب تقديما تلفزيونيا "قيما" للغاية, وقال "بعد قليل سنتحدث عن مسافة 1500 متر بشكل حصري على قناتنا وسيقول لنا البطل سعيد عويطة أشياء ساخنة وخطيرة". المغاربة الذين أنصتوا لهذا التقديم فهموا أن القناة تمارس إشهارها على حساب بلد بأكمله, لكنهم تمنوا أن يكون إبن البلد أذكى من اللعبة وألا ينجر إليها, لكن سعيد رسب فعلا في الامتحان, وبدا صغيرا للغاية, وهو يروج لنفسه ولرغبته في أن يكون رئيس جامعة ألعاب القوى على الهواء مباشرة. سعيد عويطة بطل أسطوري. هو لوحده قدم للمغرب ما لم يقدمه أحد من قبل. عرفنا العالم عن طريق سعيد, وجميله في رقبة كل المغاربة إلى يوم الدين. لكن سعيد عويطة المحلل الرياضي أو المعلق التلفزيوني بدا هزيلا جدا, وبدا أهزل من أن يكون صنوا لسعيد عويطة البطل الذي نعرفه. سعيد الذي يتقاضى أجره بالدولار من قطر نظير سب بلده على الهواء مباشرة لتصفية حساباته الشخصية, هو أصغر من أن يكون سعيدنا الوطني الذي استفاق المغرب كله سنة 1984 في الفجر لكي يراه يجري ويحمل راية المغرب في الآفاق. خطوة صغيرة تفصل بين البطولة بمعناها النبيل, وبين الصغر بمعناه المنحط كثيرا, الذي يجعل أنانية المرء تنتصر على ماعداها وتورطه في أشياء لا يحق له أن يتورط فيها. المغرب أكبر من أن نسبه على شاشة "الجزيرة الرياضية" آسي سعيد, وإذا كان هناك من حساب ما فلتأت إلى البلد ولتفتحه علنا. هذه هي أخلاق الأبطال الرياضيين الحقيقية, بالمنشطات أو بدونها.