السبت، 18 شتنبر 2010

عن الراحل الكبير أركون

محمد أركون
خبطتين في الراس توجع يقول المصريون, فمابالك بثلاث ضربات قوية بالفعل؟ في السنة الواحدة ذاتها فقد العرب محمد عابد الجابري وفقدوا حامد نصر أبوزيد, ثم عادوا ليلة الثلاثاء الأربعاء الفارطة لكي يفقدوا محمد أركون. بين الثلاثة خيط رابط متين يسمى البحث المضني عن وهم كبير هو العقل العربي. أمضى الثلاثة الحياة كلها مشروعا للتنقيب عن هذا الوهم, ولا شك أنهم في لحظة من اللحظات بعر أن تأكدوا أن المهمة أشق مما كانوا يتصورونه في البدء قالوا لأنفسهم "ومالنا على هاد تمارة كاملة؟".
بالتأكيد نتخيل كلاما لاوجود له, لكنه التبرم من حال الأمة النائمة في أحضان أوهامها اللاتنتهي هو الذي يدفع إلى مثل هذا التخييل. "علاش كيموتوا العقلاء؟" في السؤال بعض الاستنكار غير المقبول, لأن الجواب البديهي هو أن أجلهم قد حان واللهم لااعتراض. لكن فيه أيضا بعض التلميح إلى أن القدرة على البقاء تكون للحمقى في الأمة المجيدة, وتكون للقادرين على احتضان الخرافات وترديدها بالشكل الغبي الشهير ذاته, وتكون للممسكين بتلابيب كل مالاعلاقة له بالعقل أو التفكير السليم.
أركون الذي رحل عنا هذا الأسبوع والتحق برفيقي الصراع من أجل عقل عربي آخر الجابري وأبو زيد هو مشروع حياة بأكملها لإعادة الاعتبار للفكر العقلاني عند الأمة. وهو مشروع حياة بأكملها لقراءة أخرى للإسلام. وهو مشروع حياة بأكملها للبحث عن نقط الخلل وماأكثرها في الذهن العربي الجريح. له القولة الشهيرة "الديان هي إيديولوجيات" التي كان يرددها ويبرهن عليها باستمرار وله قوة الحجاج التي يعرف بها حتتى بين أشد معارضيه شراسة, والتي جلبت عليه تكفير القرضاوي بعد أن هزمه أركون في مناظرة تلفزيونية بينهما بدا فيها أركون متمكنا من بحور علمه, هادئا رصينا قادرا على قول كل الأشياء بسلاسة فيما بدا القرضاوي محتدا وقد فقد ذلك التواطؤ الكبير الذي تمنحه له الجزيرة وغيرها من منابر الإسلام السياسي, مااضطره للخروج عن طوعه والتلويح بكلام لاأثر فيه للعقل أبدا.
أياما قليلة بعد تلك المناظرة خرج القرضاوي في الجزائر بلد أركون لكي يقول عن هذا الأخير آنه "غير مؤمن بالشريعة الإسلامية" في اختزال معيب, لكن يقول كل شيء عن شيخ الإسلامويين هذا الذي لم يتقبل أن يفعل به أركون مايشاء علميا وأدبيا في مناظرة تلفزية رآها الكثيرون ورأوا فيها قدرة مفكر علماني نظيف على هزم الشعبوية الإسلاموية بالحجة والبيان.
عاش أركون حياته بأكملها منذ أن رأى النور في تاوريرت الجزائرية يحلم يوم لقاء للحضارات التي بنت العقل الإنساني, فلم يؤمن بأن القدر الأخير لهذه الحضارات هو الصراع, إذ كان يرى فيها المشارب التي ابتدأ منها الإنسان, وانتهى إليها. وكان يعتبر أن فهم كل حضارات الكون ممكن دون اعتبارها غريبة أو تصنيفها ضمن التعبير الشهير "الآخر" بل كان يرى فيها إنتاجات بشرية من اللازم الاستفادة من كل واحدة منها قصد الوصول إلى توافق ممكن بين الإنسانية كلها ذات يوم اعتمادا على هذه الحضارات كلها وتلاقحها.
وإذ نذكر لأركون بعض الأشياء اليوم نذكر أن زملاءنا في القناة الثانية استضافوه في برنامجهم "مباشرة معكم" في حلقة أثارت الكثير من الجدل _ على عادة مرور أركون من المناطق التي تزعج العقل العربي الراكد _ وحينها قال أركون عن المغرب كلاما طيبا للغاية, بل اقترح أن يكون بلدنا مقرا رئيسيا لمعهد للدراسات التاريخية والأنتروبولوجية المقارنة بين الأديان. وأشار إلى أن الجهل المقدس والمؤسس هو مفتاح خوف الغرب من الإسلام, محيلا على كتاب أويليف أووا "كيف نقدس الجهل؟" وملحا على أن المجتمع هو الذي أدى بالفاعلين الاجتماعيين إلى تقديس الجهل.
ليلتها أصر أركون بهدوئه المعتاد على أن يقول إن المعهد الذي اقترح المغرب لاحتضانه هو معهد "سيمكننا من الخروج من تكرار ماتلقيناه من الماضي دون أن نحلله ونخضعه للتفسير لكي نستطيع التأسيس لنظرة جديدة لجميع الديانات من خلال دراسة النصوص المقدسة دراسة تاريخية". هاجت الجموع الرافضة لسماع كلمة العقل يومها, وخرج من صفوفها من شن على أركون الحملات فقط لأنه عبر عن رأيه, وحين سئل بعد العودة إلى فرنسا عن رأيه فيما أثاره كلامه في المغرب من جدال خصوصا في أوساط الإسلاميين الذيم يناصبونه العداء الدائم, قال أركون مبتسما "إنهم يناصبون مجتمعاتهم العداء, ويناصبون العقل العداء, فلم سأنزعج إذا ماناصبوني أنا أيضا العداء؟"
الشيء المحزن الوحيد في كل الإشراقات التي حملها أركون خلال حياته التي انتهت ليلة الثلاثاء الأربعاء, أن لاوجود لقراء لكتابته في العالم العربي المريض. الرجل مقروء من الأجانب بشكل كبير ومن طرف نخبة قليلة هنا, أما البقية الباقية من القطيع, فأنتم تعرفون بالتأكيد هواها في القراءة إلى أين يسير. رحم الله أركون, ورحم الله العقل العربي عند أمة "الشعبولات" هاته.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
أخيرا سيأتي غيريتس إلى بلادنا. أخيرا سيحل بيننا عريس الكرة الوطنية لكي ندخله على هذه البكر الثيب المسماة كرتنا التي لم يطأها إنسان من قبل, والتي بقيت كالجوهرة المصونة والدرة المكنونة لكي نستعير لغة الأزلية التي تبدو أنها الوحيدة الصالحة لهذه الكرة الكسيحة الموجودة في بلادنا.
من حقنا فعلا أن نحور النشيد الرمضاني الشهير "رمضان جانا وفرحنا به", وأن نحوله اليوم إلى "غيريتس جانا" بعد أن أعيانا طول الانتظار. والأمل الآن أن لانقصى من كل شيء "عاوتاني" حتى والسيد غيريتس معنا. سير عالله وصافي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق