الجمعة، 18 مارس 2011

فوسفاطيون ولكن

في خريبكة يقطنون. لهم من سمة الانتماء الأسنان التي يضعون فوقها اصفرار الحياة, ولهم من المسوغات للذهاب إلى الطبيب كل مرة العلامات الدالة على أن التلوث يسكن منهم كل مسام الذوات, ولهم في الختام الوهم الذي يحملونه باستمرار كلما عبروا مدينة ما أنهم هم من يحملون للمغرب خيره الكبير: الفوسفاط. مشهدهم شبيه بمن يعيش في مدينة بترولية دون أن يكون له من علامات البترول إلا السواد العالق في الأيادي. ماعدا ذلك لا شيء.
يمضون اليوم بطوله في الأحياء الفقيرة, يبحثون عن بوشعيب الذي ذهب منذ عشرين سنة إلى إيطاليا وعاد منها بمال كثير. يتحدثون عن المصطفى الذي باغ الغبرة في ميلانو, وعن محمد الذي عاد ميتا في "باطيرات الرعب المخجلة والقاتلة". تتراءى أمام أعينهم قصة فتيحة الفتاة التي كانت فتاة ذات يوم وكانت جميلة ذات زمن, والتي لم تجد ماتبيعه يوم خرجت من خريبكة غير الجسد البض الذي كان يحرك خيال الشبان. هي اليوم في مكان ما بين فرنسا وإيطاليا تترأس فريقا من شبيهاتها ممن لم يجدن شيئا يبعنه غير لحمهن الرخيص,تعود صيفا على متن سيارتها ذات الدفع الرباعي, تقيم الأعراس لمن تعرفه ولمن لاتعرفه, تمثل دور الفرحة المبتهجة بما خبأته لها الحياة, ثم تختفي ذات يوم بحثا عن مزيد من المال, مزيد من بيع الذات.
عندما تتحدث إليهم عن الفوسفاط يسخرون منك. يقولون لك إن الخير الذي يحمل للمغرب مئات الملايين من الدراهم سنويا لم يحمل لهم إلا الانتظار. في سنوات أخرى قيل لهم "من حقكم أن تجلسوا في منازلكم, وسيأتيكم ريعه". بقوا لسنوات جالسين في المنازل دون أن يأتي ريع أي شيء. بعد ذلك قيل لهم "سنوظف الأبناء منكم مكان الآباء, نحن نعرف أنكم عانيتم كثيرا واليوم لكم الحق في أن تأكلوا قليلا من خيرات المنطقة التي توجدون فيها". بقوا ينتظرون هذا التوظيف الكاذب إلى اليوم. في يوم آخر قالوا لهم بصراحة جارحة "أنتم غير مؤهلين للاشتغال في أي مكان من الأمكنة, أنتم تصلحون للحريك فقط, لذلك رجاء تدبروا أمر 15000 درهم, واغربوا عن ناظرينا, ويوم يصبح ممكنا لكم أن تعودوا بكثير من المال إلى أرض الوطن ستجدوننا في انتظاركم نغني لكم بداية موسم العبور مرحبا بكم في بلادكم".
طبقوا النصيحة بالحرف. اختاروا بيع الأثاث البسيط الذي بقي عن الآباء والأمهات, ودفنوا في مكان ما يصعب الوصول إليه شهادات الدراسة التي ارتكبوها ذات يوم ورحلوا.
البقية الباقية التي ظلت في البلد كان أمرها أكثر استعصاء. في الصباح يكون لديك الخيار بين أن تشحذ أسنانك بعود بري التقطته من الأرض, أو أن تبقى نائما حتى الثالثة زوالا. في المساء لديك الخيار الكامل بين أن تسكن في الخمارة التي توجد قرب منزلك, أو أن تتبع دخان "الجوانات" إلى حيث قد يحملك. الفتيات لهن مصير آخر, هن يحملن ماتبقى من زينتهن ويخرجن: الواحدة صوب المحليين الباقين, والأخرى صوب مهاجر ضل طريقه في غير موسم الأعراس إلى البلد, والباقيات الصاالحات يقطنن في المنزل لايخرجن منه إلا إلى المصانع البئيسة التي لم يعد لها وجود, أو إلى الوجهة الأخرى التي تخفي الناظر تماما عن الأغراب والأقربين.
لذلك حين انتفضوا كان السؤال الأول الذي طرحه العديدون هو : لماذا تأخرتهم في الاستفاقة؟ كنا ننتظر أن تهب خريبكة واليوسفية وجرادة قبل الآخرين. هي مدن الموت التي حكم عليها بالفناء, وحكم على أبنائها أن يكونوا نجوما "بالزز عليهم" في القنوات الإيطالية: أن تظهر جثثهم باستمرار على الشاشة لكي يفوز بيرلوسكوني بالانتخابات, أو أن يلقى عليهم القبض ويدانوا ثم يساقوا إلى البد الذي كان بخيلا عليهم منذ لحظة الميلاد, والذي اختار لهم المسار الحزين الذي ينتهي على ضفاف المدن الإيطالية الباذخة لكن في الهوامش دوما أو بين صفوف المافيات.
الفوسفاط بالنسبة لهم نكتة سخيفة لم يعد الجيل الجديد قادرا على حكيها لمن يتلوه. أصبحت بطعم كريه للغاية وبرائحة تشبه رائحة الموت المنتشر في كل مكان, ويوم الثلاثاء كانوا يجربون فقط وهم يواجهون قوات الأمن بالعصي والحجارة وقنابل المولوتوف معنى أن تصرخ الموت ببطء يوميا لكي ينتفع الأسياد من خيرات الأرض التي ولدت فيها. أعترف أنني بحثت بعيني وبأذني وبكل الحواس الأخرى وبأصدقائي الكثر وبأقاربي المسجونين في تلك المدينة عن أثر مبرر لللدمار الذي رأيته غير ما أعرفه عنها منذ قديم الزمان فلم أجد.أنا أيضا قلت المتطرفين, وقلت أصحاب الأجندة الخارجية, وقلت من يريدون الصيد في المياه العكرة, لكنني في الختام تذكرت قريبا لي أمضى هناك بعض العام أو يزيد ثم فر هربا من وظيفته العمومية إلى زواج أبيض في أوربا وإلى أوهام أقل استعصاء من أوهام البلد العاق بأبنائه.
قال لي يومها وهو يرحل "وحده الروج والحشيش يوجدان في هذه المدينة, غيرهما لايوجد أي شيء, من حكموا على مدن الفوسفاط بالموت لكي تحيا الحواضر الكبرى بخيراته مجرمون سيؤدون الثمن إن آجلا أو عاجلا".
تذكرت كلامه يوم الثلاثاء الفارط وصادقت عليه, ولم أختلف معه إلا في تفصيل صغير: المجرمون من أغنياء الأزمة لن يؤدوا الثمن. الفاتورة الغالية كلها سيؤديها الوطن وحده دون أي معين.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
من هو الوزير المغربي الأكثر ابتعادا عن الواقع المعيش؟ هو منصف بلخياط بكل امتياز. مومو مثلما يناديه الحميميون لم يجد خيرا من هذا الوقت الذي تغلي فيه الأرض المغربية بمن فيها لكي ينظم المعرض الدولي للرياضة بمراكش.
يبدو الأمر مثيرا للكثير من السخرية ومنصف وإعلاميوه منشغلون بمعرض مراكش وليالي مراكش, في الوقت الذي يشغل شباب المغرب _ الذي يعد مومو وزيره نظريا _ بالتحضير ل 20 مارس ولأجواء الحرية التي يريد الدخول إليها عوض البقاء أسير سياسة تأتي بأمثال منصف إلى مواقع المسؤولية في الختام.
"ديكونيكطي", هذه هي الكلمة بلغة الفرنسيين, منصف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق