الجمعة، 8 أكتوبر 2010

الدارجة والعربية عاوتاني

دعا إعلان دمشق إلى حماية اللغة العربية من العاميات, واحتفى الكذبة من أدعياء الدفاع عن العربية الفصحى بمختلف استعمالاتها بهذا النداء, واعتبروا أنه أتى في وقته لكي يضع حدا لتطاول "العاميات" على اللغة المقدسة. نقاش فارغ للغاية, ويكشف أن الخوف من التقدم اللغوي أضحى هاجسا فعليا يشغل بال العديدين, ويفرض عليهم الرغبة في التحنيط في قالب ميت لايريدون عنه فكاكا بدواع مختلفة أكثرها هشاشة هو أن اللغة العربية هي لغة القرآن, وبالتالي هي لغة مقدسة على كل المسلمين أن يحافظوا عليها وعلى استعمالها.
طيب ياسيدي, مقدسة مقدسة, فما الذي يمكننا أن نفعله بإخوتنا المسلمين الأندونيسيين الذين لايعرفون من العربية إلا الفاتحة و"قل هو الله أحد"؟ ما الذي سنفعله بأخوتنا الماليزيين الذين يكتفون من العربية بإضافة حرفي الياء والراء لأسمائهم الأصلية قصد أسلمتها بعض الشيء؟ بل ما الذي يمكن أن نفعله بإخوتنا من أهل طالبان أي بالأفغان الذين يعتبرهم المتطرفون أكثرنا حفاظا على الإسلام, وهم أناس لايعرفون من العربية الذي بعث؟
لاحل, سوى أن نتعامل معهم باعتبارهم غير مقدسين أو مدنسين ماداموا عاجزين عن الحديث باللغة المقدسة التي يعتبرها العرب هكذا, وانتهى الأمر. ومع ذلك يبقى الإشكال مطروحا: أليس من حقنا الدفاع عن إمكانية كتابتنا وإبداعنا وتواصلنا أفضل بدارجاتنا؟
نحن المغاربة لدينا أفضلية على العاميات الأخرى, أو على اللغات الأم الأخرى, هو أن كثيرا من دارجتنا مأخوذ مع العربية الفصحى , ولدينا قدرة كبرى على تطويع الاستعمال بين اللغتين, ولدينا عدد كبير من المغاربة ممن لايتقنون استعمال العربية الفصحى ولا يفكون طلاسمها, وهم يعبرون باستمرار عن رغبتهم في تطوير أنفسهم وأدائهم اللغوي, وفي التعامل بشكل أفضل مع قضاياهم لو تمكنوا من تواصل يحترم مايعرفونه, ويساعدهم في التعرف على مالايتقنونه.
بهذا الشكل النقاش محسوم, لكن الوجه الآخر للمشكلة يظل مختفيا باستمرار, ولا أحد من هؤلاء الذين يتصدون "من تلقاء أنفسهم" للدفاع عن العربية المقدسة يكلف نفسه عناء شرح السبب الحقيقي لكل هذا الدفاع المحموم: الرغبة في الاستفراد بالمعلومة, والمعرفة, وترك الآخرين, الأغلبية في جهلها لأن الجهل وعدم التواصل معها يصنع صفقة المتحكمين في رقاب العلم.
من يقولون إن اللوبيات الفرانكوفونية هي التي تدفع في اتجاه الدفاع عن الدارجة حفاظا على مصالحها, ودفاعا عن "حزب فرنسا", يتوقفون عند "ويل للمصلين", ولا يقولون لنا إن "اللوبيات العربوفونية" هي الأخرى تدفع في اتجاه ترك المعرفة لديها وحدها, وأن مخاطبتها في موضوع تبسيط العدل والتعليم بدارجة المغاربة هي مخاطبة لن تستقر على حل لأنها تعرف أن فتح المجال لتداول المعلومة بين الجميع بالقدر ذاته من الفهم معناه سقوط أوهام وأصنام كبرى في المجتمع لاتمتلك سوى رطانتها المتحجرة لكي تمثل بها دور المهمين جدا.
الكثيرون من بين هؤلاء يعيشون على الوهم الذي صنعوه بداية الاستقلال حين كان من يمتلك الشهادة الابتدائية وبعض الكفاءة من المشرق قادرا على أن يتحول إلى مدير لمؤسسة عمومية أو لوزير حتى. وحين نخاطبهم بلغة مغاربة اليوم الذين راكموا الشهادات الجامعية من كل الدول, والذين يتحثون بأربع لغات على الأقل, والذين يريدون _ وهذا هو الأجمل _ أن يجعلوا لغتهم المغربية تاجا على رأس كل اللغات التي يتحدثونها: عربية, فرنسية, إنجليزية, إسبانية وغيرها...نجد أن الكلام لايمر بين الطرفين, إذ أنهم يعتبرون أن أحدا, جهة ما, لوبيا ما, يريد تجريدهم من الرمزية الكاذبة التي راكموها على امتداد كل القرون التي عاشوا معنا فيها.
هؤلاء لا أمل فيهم إطلاقا في أن يفهموا يوما معنى الدعوة إلى وضع لغتنا المغربية لغة تواصل رسمية لنا جميعا. هؤلاء الذين يرون المؤامرات في كل مكان, والذين يعتبرون أن جهات خفية كثيرة تترك كل مهامها وتتفرغ فقط لتدمير هويتنا, وقيمنا, ولغتنا وحضارتناو هم أناس "مامعاهم هضرة", لأن الكلام معهم مضيعة للوقت بشكل نهائي وتام.
الأمل يوجد في مكان آخر بكل تأكيد. الأمل الفعلي في التوصل إلى حل فعلي لمشكلة التواصل هاته يوجد في الوافدين الجدد, في أبنائنا وإخوتنا الصغار, هؤلاء الذين تجاوزونا بكثير, ومروا من مرحلة الحديث عن مشكل اللغة إلى مرحلة الإبداع بلغتهم, الغناء بتمغربيت ديالهم, التمثيل بها, الكتابة والإبداع بها, التواصل عبرها, والذين رفعوا "البارة" عالية في وجه المتحجرين الذين يعرفون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن لاحل لهم في التوصل إلى أي اتفاق مع هؤلاء الصغار.
الأمل كل الأمل في هذه الروح الجديدة. أما قدامى التحجر فلاعزاء لهم سوى أن يلاحظوا بأعينهم المتغيرات, وأن يعرفوا أنها سائرة بهم أو بدونهم, وذلك أهم ما في الأمر في نهاية المطاف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق