الخميس، 10 فبراير 2011

الشعب يريد...

الشعب يريد إسقاط الحكومة. هكذا ابتدأ الشعار في تونس عقب هروب زين العابدين بن علي, وتشكيل حكومة من بقايا نظامه, ثم تحول الشعار إلى "الشعب يريد إسقاط النظام" حين انتقلت العدوى إلى مصر, حيث حوله المصريون بسرعة إلى "الشعب يريد إسقاط الرئيس", نيشان ودون مواربة. الشعار ليس معقدا للغاية, بل هو بسيط جدا لكنه معبر للغاية ويقول كل شيء في عبارة من أربع كلمات لاتتطلب لحنا صعبا للحفظ, ولا تريد إلا بضع ثوان من أجل التمكن من ضبطها نهائيا.
الشعب يريد في الحقيقة أشياء كثيرة, لكن من يستطيع اليوم أن يقول لنا مايريد ه الشعب حقا؟ الكثرة الغالبة اليوم تقول إنها تعرف جيدا ماتريده شعوبنا, وتحدده في إسقاط كل الحاكمين والبدء من "الزيرو" من جديد. المسألة تبدو صعبة للغاية خصوصا وأن الشعب الذي يقال لنا اليوم إنه يريد, وأنه أضحى قادرا على فرض مايريدو هو شعب مشكل من طبقات شتى فيه قلة قليلة تقن تمييز الأمور عن بعضها, وفيها نصيب وافر من الناس _ ولا عيب في ذلك على الإطلاق بل هو العيب ذاته _ علاقتها بالقراءة والثقافة والوعي السياسي منعدمة, ما يمنعها من تشكيل أي قرار مستقبلي كبير لبلدانها بشكل يمكن الاطمئنان إليه.
لذلك من الصعب فعلا أن نقول اليوم إن الشعب يريد بوعي هذه الأمور التي يقول إنه يريدها. ولنطمئن بسرعة بعض الأذكياء ممن يقرؤون بين السطور أكثر من اللازم. نحن لانريد إطفاء أي ثورة كانت, فهذا ليس دورنا, ولا نريد أن نحبط العزائم, فهي محبطة "من عند الله", ولا تحتاج ليد المساعدة منا, خصوصا وأننا نعتقد جازمين أن على الصحافي أن يضع مسافة فعلية بينه وبين كل مايقع الآن وأن لايتحول مثل بعض مناضلي الساعة الخامسة والعشرين إلى منظرين للفوضى القادمة على أجنحة كثير من الجهل المحيط بنا من كل مكان.
مانريد قوله هو أنه لايمكنك أن تطلق الجموع غير الواعية في الشارع وأن توهمها بأنها ستحقق ثورات الديمقراطية الأخيرة, وأن ترتاح وأنت تردد الشعب يريد إسقاط النظام. الأمر أشبه مايكون بجريمة أخرى إضافية نرتكبها في حق أمة ارتكبت في حقها الكثير من الجرائم مذ السنوات العديدة, بدءا من جرائم التفقير التي مورست في حق أبنائها مقابل اغتناء حفنة صغيرة على حسابهم, مرورا بجريمة التجهيل التي يمكن اعتبارها السبب الرئيس في كل مايقع اليوم لنا من نكبات يومية, ووصولا طبعا إلى جريمة القمع التي جعلت العرب آخر الأجناس الموجودة على الأرض في مجال حرية التعبير والتفكير.
الجريمة الجديدة هي جريمة "الشعب يريد". فمن يصورون لنا اليوم مايقع في دولنا باعتباره مجرد انعكاس لإرادة الشعوب يجروننا من حيث يدرون أو لايدرون إلى هاوية من نوع جد متقدم, يريدون بها, المراهنة على الفوضى من أجل إيجاد أمكنة لأنفسهم. هم لايضعون في الاعتبار أن أمما مثل أممنا تضع الجهل عن يمينها والتطرف عن يسارها لايحق لها أن تغامر هذه المغامرة القاتلة. هم يفكرون فقط فيما يمكن أن يحمله لهم هذا الرهان من مكتسبات شخصية هي في النهاية بالنسبة لهم أفضل من بقاء الوضع على ماهو عليه.
ولكم أدهش الأمير المغربي مولاي هشام المستمعين إليه حين سقط في تناقض واضح وصارخ بين ماكان يقوله يوم الإثنين في برنامج "كلمات متقاطعة" من أن الثورة لن تستثني أي بلد عربي, قبل أن يقول في نهاية الحلقة "في المغرب سيكون هناك تطور ولن تكون هناك ثورة". الوزير الفرنسي لولوش التقط في نهاية الحلقة هذا التناقض الإرادي الذي فضل الأمير السقوط فيه, وقال لمولاي هشام "حسن جدا سموكم, في كل الدول سنكون هناك ثورات إلا في المغرب فسيكون هناك تطور, هذا أفضل لأننا نحتفظ بعلاقات جد طيبة مع المملكة".
لولوش كان يعرف لماذا قال تلك الكلمات بتلك الطريقة الساخرة للأمير, في الوقت الذي كان الأمير غير قادر على الهروب إلى الشعار الآني الشهير "الشعب يريد" بكل بساطة لأن الشعب هنا لم يكلفه بقول شيء, ولأن سموه يعرف أفضل من الآخرين أنه من الصعب بل المستحيل أن تقول اليوم إن الشعب يريد شيئا محددا دون أن تكون كاذبا. فمشكلة شعوبنا الكبرى اليوم هي أن الكل يقول إنها تريد شيئا ما لكن ولا أحد من الذين يتحدثون باسمها كلف نفسه عناء سؤال الشعب جديا : ماذا تريد أيها الشعب؟
الكل يخشى طرح السؤال حقا لأن الإجابة ستكون صادمة لنا جميعا. عوضها نفضل كلنا الهروب إلى ترديد الشعار باسم الشعب زورا وبهتانا دون أن نضع في اعتبارنا أننا إذا واصلنا سيخرج علينا الشعب يوما لكي يقول لنا بالعربية تاعرابت "الشعب يريد إخراس كل الأفواه التي تتحدث باسمه دون أن يطلب منها ذلك". وهذا اليوم لن يتأخر كثيرا في الوصول, ومن يرد الرهان فالمجال مفتوح أمامه بكل اطمئنان.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
بعض حلقات البرنامج المسمى "حوار" هي التجسيد الأمثل لكل مانقوله باستمرار عن أزمة السياسة في المغرب: غياب أي قيمة فعلية لمايقال في الحصة التلفزيونية, استضافة لأسماء بدون حضور في الساحة واستجابة فقط لمنطق تناوب على الظهور التلفزي لا معنى له بين الأحزاب, انفصال تام عن مناقشة مايهم الناس وانخراط غبي للغاية في نقاشات عن انتخابات قال المغاربة باستمرار إنها لم تعد تهمهم مادامت تأتي بنفس الكائنات الانتخابية التي يعاديها شعبنا منذ القديم.
في الختام نتصور أن برامج من هذا النوع نجحت فعلا في هدفها: أن يكره الناس السياسة والسياسيين ومابينهما, وهذا حتى إشعار آخر "يعيقو فيه صحابنا" بأن الوقت تغير عنهم تماما

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق