الاثنين، 13 غشت 2012

عائد إلى الصحراء

خايبة بنادم يهضر قبل من الفطور. لعل بنكيران يقولها لنفسه الآن بعدما لم يلتقط المستمعون والمشاهدون من خطابه أمام مجلس المستشارين إلا عبارة "الجوع باقي كاين فالمغرب". إلى الدرجة التي جعلت العديدين يقولون تعليقا على عبارة عبد الإله "إن صوم رمضان فرض عليه اللجوء للقاموس المطبخي هذا". لكن "بيناتنا" ودون ضحك "دابا", يجب الاعتراف فعلا أن مناطق في المغرب تعيش مايفوق الجوع بالفعل, وأن هناك مواطنين لنا تركناهم في الهوامش وفي هوامش الهوامش, منسيين تماما إلا من رحمة الذي لا ينسى أحدا, أي الخالق جلا وعلا. رحلة الصيف قادتني لبعض هاته المناطق, واكتشفت أنه من الممكن تدبر أمر الشهر كله بخمسمائة درهم. صدقوا أو لا تصدقوا. هناك مواطنون مغاربة كل مايصلهم الشهر كله هو هذا المبلغ, ورغم ذلك يعيشون, ويأكلون ويشربون قدر المستطاع فعلا, لكن الأساسي هو أنهم يعيشون. وحين يتحلقون في المساء حول إبريق شاي يعطيك الإحساس أنه مر من كل الحروب العالمية التي عبرت الكون, يضحكون. لا يكتفون بالابتسامات الصفراء المنافقة التي يتبادلها أهل المدن العمملاقة فيما بينهم. لا,هم يقهقون حتى يتبدى أثر الأسنان التي فعل بها الزمن الغريب فعله, ولا يكترثون. تسألهم عن الغد, عن المستقبل, عن الأشياء التي نعتقد _ ونحن نخطط هباء لها لكأننا سنعيش أبد الدهر _ أننا نفعل جيدا بضبطها, فيردون بالنظر إلى فوق مع الإشارة العفوية من الأصبع الموحد للسماء أن "غدا ربي بوحدو اللي عارف شنو غادي يوقع فيه". في مكان ما قرب الصحراء, غر بعيد عن مولاي علي الشريف, أناس من عمق العمق, طيبوبتهم قاسية حد عدم التحمل. جديتهم لا توصف. المعقول كلمة يستعملونها في المعيش اليومي, وليس فقط في الحملات الانتخابية مثل البعض, لايملكون شيئا يهدونه إليك غير تمرات رطبة شهية من عين المكان, تنزل مباشرة من النخلة إلى أمعائك. في مذاقها ملوحة لا تناسب الحلاوة التي ترافقها. هي ملوحة العيش وسط التهميش ووسط الفقر, ووسط النسيان. تأتي إلى هؤلاء الناس أخبار المدن العملاقة مرة بعد الأخرى. يسمعون عن الشقق الغالية, وعن السيارات التي تساوي ثمن الشقق وعن سكان المدن الذين يحيون "بالكريديات". ترى الابتسامة وقد علت المحيا منهم, وترى الإيمان بأنهم محظوظون رغم كل شيء, في أنهم قد نفذوا من المصيدة ولم يقعوا في حبالها, وقد غزا الملامح المسمرة التي تشكلهم. يقول كبيرهم على شكل حكمة بليغة للغاية يوم الوداع "الجوع ماشي ماتلقاش شنو تاكل وشنو تشرب آولدي. الجوع الحقيقي هو أنك تبقى غير كتجري حياتك كلها". لهم البقاء, ولهم القدرة على صفع الحضارة الزائفة بحضارتهم الفعلية واللاتزول. تحاورهم _ باعتبارك صحافيا زعما _ عن الأشياء التي تنقصهم في ذلك المكان البعيد. يسردون عليك أقاصيص العيش الصعب مع المستشفيات والمقابر. تقول إن هناك أشياء أجدر بالحكي عنها غير المرض والموت, فيبتسمون ببداهة طيبة مرة أخرى, ويقولون إنهم يتدبرون أمر كل الأفراح والمصاريف التي تأتيهم من أجل أشياء الحياة, ويصبرون بخصوصها كثيرا, بل غالبا مايطبقون تجاهها المثل الشهير "كم حاجة قضيناها بتركها", ويمضون. لكن في الأحداث الأليمة. حين تمرض لك أم كبيرة ولا يسعك إلا أن تنصت اليوم بطوله لآهاتها وهي تمزق أحشاءك, حين يصرخ صبي ولد بالكاد ولا تعلم ما الذي ينبغي أن تفعله من أجله, وعندما يسلم الأعزاء الروح فتفكر في الكيلومترات الطويلة التي عليك أن تقطعها من أجل أوراقهم الثبوتية التي تؤكد الحياة والممات وتؤكد العبث قبل وبعد كل الأشياء, حينها تحس بقسوة العيش في هذا المكان, ويبدو لك المتحدثون في التلفزيون عنك وعن مشاكلك كذبة من طراز رفيع حينها فقط تسألة نفسك بحرارة ولوعة "واش حتى حنا مغاربة؟ وواش حتى حنا محسوبين على هاد البلاد؟". لاتجد ردا مفحما ولا جوابا حقيقيا يليق بالسؤال وقسوته, فتحزن مجددا وأنت تلمح في أعين العائدين من المدن بعد الدراسة والتحصيل إلى جحيم البطالة القاتل الكثير من الحقد على كل الأشياء. يختزلون العالم كله في جملة "اللي عندو الزهر ولا ماعندوش", ويعرفون أن الحياة العجيبة خلقتهم دون حظ منذ الوهلة الأولى هناك, وفرضت عليهم أن يقاسوا مرتين من أجل العيش ومن أجل قليل من هاته الحياة. والعودة تستحث خطاها من هناك, كانت صورهم جميعا تترى الواحد بعد الآخر. ملامحهم التي تشبه ملامح الأجداد والأصل الأول تقول كل شيء: سمرة عصية على الوصف, وتجاعيد في أماكن غير متوقعة, وإصرار على المضي قدما مهما كلفت محاولة العيش أو التعايش هاته من ثمن...دون نسيان الأهم: الابتسامة الطيبة المرافقة لكل هذا الحزن وكل هذا الشجن. لهم البقاء, فهم حقا كل الامتداد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق