الجمعة، 17 فبراير 2012

إعلان حب متأخر

ارتدت ملابسها بعناية ذلك اليوم. البروش الذهبي الذي أهداها إياه ذات يوم والذي لم تعرف إن كان من الذهب الحقيقي أو من "البلاكي أور" رصع الجلباب الأحمر الجميل. على الشعر سترته الشهيرة, وفي العينين الكحل المغربي العتيق. تطلعت إلى المرآة اليوم مئات المرات. منذ اللحظة الأولى التي استفاقت فيها, كانت مصرة على أن ترمق بعينيها عينيها. أن تمسح منهما تماما علامات السهر المتوالي, والحزن اللاينتهي وأن تذهب إليه "في كامل مشمشها" مثلما قال الراحل محمود درويش يوما عن أشياء لازالت فوق هذه الأرض تستحق الحياة.
إفطارها كان سريعا للغاية. هي أصلا لا تأكل كثيرا, وعلاقتها بالطاولة علاقة تهييء لها فقط. تضعها, تجهد النفس كثيرا لكي تأتي في الختام حافلة بما لذ وطاب, وفق مستطاع الفقراء طبعا, وتحرص على أن تتملى فيهم جميعا وهم يأكلون بعد أن تنتهي من إعداد الطاولة. هي الأولى تنهض مباشرة بعد أن يفرغ الجميع من الأكل. تستأنف في المطبخ علاقتها الخرافية بالتعب وب"تمارة". تغسل الصحون قصدا بكل العناية الممكنة, وتتأمل في زجاجها بتدقيق غريب باحثة عما يمكن أن يكون شيئا أفلت منها هنا وهناك, وبقي رغم عملية الغسل الدقيقة عالقا بالأواني.
استلت من الدرج العتيق قارورة العطر التي أهداها إياها. استنشقتها بكل الحب, ثم وضعتها في الدرج. هي لاتضع هذا العطر أبدا. تتنسم فيه رائحته, وتقول لنفسها إنه أهداه لها مرة ولا تعرف إن كانت ستحظى بالهدية مرة أخرى, لذلك تتركه في الدرج, وتترك قارورته تذكارا لما تبقى لها من أيام. صورته أيضا في الدرج. في الحقيقة صورته منها في كل مكان من البيت الصغير. تصر على أن تراه في كل الأرجاء. تضعها في البهو الأول المؤدي إلى المنزل. صورة كبيرة ببرواز ذهبي جميل, يبدو هو فيها مقطبا حاجبيه بعض الشيء, لكن الجانب الأيسر من فمه يند عن ابتسامة تريد الخروج, تكشف شخصيته المرحة والميالة للمقالب باستمرار.
في الصالون الصغير الداخلي صورتان له, واحدة بلباس فريقه الرياضي المفضل, والأخرى بالبذلة الرسمية, وبربطة عنق كانت هواه المستمر في عالم الصرعات والموضة التي لم يتبعها في يوم من الأيام. تلك الربطة رافقته دائما, ذهب بها إلى أول حفل تخرج من المعهد, ثم ذهب بها إلى مقابلة العمل الأولى, ثم ذهب بها أول أيام العمل, وبعد ذلك رافقته في كل الأعياد والمناسبات, وبالأخص في أعراس أصدقائه. كان يضعها ويضحك, وهو يقول "غادي تعقل على كاع الزردات اللي حضرت فيهم". هي كانت تصر على أن تقترب منه بدلال وخفر, لكي تعدل ربطة العنق قليلا جهة اليمين أو جهة اليسار, ولكي تطبع على الخد قبلتها المحببة والدائمة, دون أن تهتم بالآخرين. هي لا تحفل بهم. تجعل من عينيه إذ يرافقانها في كل شبر من البيت الطريقة المثلى لتحمل غيابه "إلى أن يعود". هي تحبه, هكذا وبكل اختصار, لذلك هي لاتخجل من وضع كل هاته الصور, وإن رأى فيها الآخرون علامة شيء غير عادي.هي أصلا لم تكترث أبدا بالآخرين, لذلك لايهم.
مكياجها خفيف هذا اليوم. بودرة قليلة على الوجه, وأحمر شفاه خافت, يصلح لمقاومة البرد القارس هذه الأيام أكثر مما يصلح للزينة. هو يفضل المكياج الخفيف, وهي تعتنق كل مايفضل, لذلك تفعل مايريده دون أدنى مناقشة. واليوم وهي ذاهبة إلى زيارته لاتريد أن يحس بأي شعور سيء عند مشاهدتها. هي تريده أن يعرف أنها تنفذ حرفيا كل مايريد, وأنها على العهد الذي كان, منذ أن اشتبكت الأيدي منهما ذات يوم أول مرة, وحتى آخر الأيام.
أقفلت الباب بهدوئها المعتاد. وضعت المفتاح في الحقيبة اليدوية الجميلة التي اشتراها لها من أول راتب تسلمه, نزلت الأدراج وهي تتمتم ببعض الأدعية. سلمت على الجارة التي التقتها في الفناء الداخلي لباب العمارة, ثم خرجت لاتلوي على شيء, قاصدة موعد الحب الكبير هذا يوم الرابع عشر من شهر فبراير.
عادتها معه أن تزوره باستمرار, لكنها تحرص في هذا اليوم بالتحديد على أن يكون اللقاء مخالفا بعض الشيء. أن تطبعه بالهوى الذي تحمله له في دواخلها, أن تحتفل رفقته باللحظات التي جمعتهما منذ أن تعرفا على بعضيهما البعض في اليوم الأول. مرت على بائع الزهور الذي يعرفها خير المعرفة. أعطاها الباقة الشهيرة إياها, بوردتين من الليلك, ووردة ياسمين واحدة, وثلاث بنفسجات, ثم الوردة الحمراء الظاهرة التي تعني الحب ولا شيء غير الحب.
امتطت سيارة الأجرة, وعدلت من منظرها في انعكاس المرآة المقابلة لها داخل السيارة. سألت نفسها "كيف سيكون هذا الصباح؟". وصلت إلى مكان استقراره. وضعت باقتها. نادت على بعضة أشخاص غرباء. نفحتهم بعض الدراهم, وطلبت منهم أن يرددوا على مسامعها سورة ياسين, مباشرة فوق المكان الذي يرقد فيه.
رشت على قبر إبنها بعض الماء, وقليلا من الورد. غالبت الدمعة القادمة, فغلبتها, وعدته أن الزيارة القادمة ستكون في الجمعة الموالية. قالت له "أحبك", ومضت لحال سبيلها. رأيتها رؤى العين, ورأيت فيها عيد العشاق إذ يكرر نفسه لديها كل سنة إيذانا بالرحيل, لأن إبنها اختار يوما أن يموت في هذا اليوم بالتحديد.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
الاسكيتش المشترك بين حسن الفد وعبد القادر السيكتور الذي قدماه في مهرجان مراكش للضحك, ونقلت تسجيله القناة الثانية "دوزيم" يوم الثلاثاء الفارط, عمل رائع باختصار. واحد من تلك اللحظات التي تصنع العمل المشترك التاريخي الذي يبقى على الدوام. هو أمر شبيه باسكيتش "الدركي" لكوليش أو اسكيتشات دوفوس الخالدة, أو للاقتراب من عوالم الثنائي اسكيتشات "شوفاليي ولاسباليس" أو "باز وبزيز" سنوات مجدهما, وهو هنيهة التقاء قامتين حقيقيتين في مجال الفكاهة, مكنت من شاهدوهما سواء في مراكش بشكل مباشر أو عبر تسجيل دوزيم أن يتذوقا القيمة الفنية لهما معا على الخشبة حين الإبداع.
جمال الدبوز قالها بعد انتهاء الفنانين من عملهما : ثنائي ولد الآن, والمتعة الفعلية التي صنعها الرجلان معا لاتستحق إلا كلمة واحدة : شكرا كبيرة لكما معا.
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق