الأحد، 3 أبريل 2011

مدن الملح

أعادني شريط فيديو شاهدته على الأنترنيت لمعطلين من الراشيدية وهم يحاصرون وزير العدل محمد الطيب الناصري أثناء زيارته "للبلاد", بالشعارات والهتافات ضد سياسة الحكومة وسياسة مسؤوليهم المحليين إلى تلك المنطقة, مثلما أعادني إليها تصريح قاله عدي بوعرفة من الحزب الاشتراكي الموحد يوم الخميس في برنامج القناة الأولى "أضواء", وهو يتحدث عن التقطيع الجهوي الجديد, ويتحدث عن الجهة التي تضم تافيلالت وزاكورة وبقية المنطقة الجنوبية (صحراوة ديال الحجر مثلما يسمون مقابل صحراوة ديال الرملة في الجهة الأخرى), ويقول "باستثناء الكرامة والخصال الإنسانية العريقة لا يوجد هناك إلا الشيح والريح".
أبناء الراشيدية الذين حاصروا وزير العدل, دون أن يكون لهم أي موقف شخصي منه, إلا أنه يمثل الحكومة التي لاتزورهم هناك إلا لماما, رددوا نفس الكلام الذي قاله عضو الحزب الاشتراكي, وهم يصيحون "الراشيدية منسية لا تشغيل لا تنمية". والمصيبة _ مثلما يقول آباؤهم اليوم _ هي أن هذه المدينة والمنطقة برمتها هي مهد انطلاق هذه الدولة التي نحيا عهدها, مايعني بالمنطق البراغماتي البسيط والأولي للأشياء أن تلك المناطق كان مفترضا أن تعيش بحبوحة العيش, وأن يحظى أبناؤها بالامتيازات في كل شيء, رغم أن الأمر مخالف للقانون, إلا أننا نعرف "خروب بلادنا" جيدا ونعرف كيف تسير المسائل في هذا البلد, غير أن الواقع هناك شيء آخر مخالف تماما.
نسيان تام لأبناء تلك الأرض, دفن بالحياة لكفاءاتها, دفع لهم للهجرة نحو المناطق المسماة "مدنية أكثر" من أجل الحصول على فرص تألق أفضل في كل ميادين العيش, أو استسلام للواقع الذي لايرتفع وبقاء بين الأهل, واختصار للمسار كله في وظيفة يتم تدبرها "بستة وستين كشيفة", أو باشتغال يدوي لدى أحد الأقارب, رغم الديبلومات الجامعية, ورغم الشهادات ورغم كل شيء.
هل الراشيدية وحدها تعيش هذا الوضع في المغرب اليوم؟ بالقطع لا. هناك شريط "حدودي" حقيقي يحيط بالبلد, يستثني عنه الدار البيضاء المركز, والرباط العاصمة, ومراكش "الفرنسية", وطنجة الصناعية المرحبة باليد العاملة الرخيصة, وأكادير التي تبيع نفسها ليل نهار لمن يدفع أكثر, ويجعل من البقية مدنا تعيش عزلتها الخاصة بها رغم كل الخطابات التي لا تكف عن طمأنتنا بأشياء لا نرى لها تحققا على أرض الواقع.
يجب أولا أن نقول إن وجود المدن المذكورة أعلاه ضمن لائحة "المغرب النافع" لايعني أن أبناءها يعيشون الرفاهية المطلقة. أغلبيتهم لا تجد ما تمضي به اليوم هم أيضا. قلة قليلة منهم تشتغل وتحاول رتق الشهر بالديون والمساعدات والأجرة الشهرية الهزيلة, و"جماعة" لا ترى بالعين المجردة تحصد الخيرات المتبقية الناتجة عن تمركز الكثير من الراغبين في الشغل في هذه المدن. لذلك تعد هذه المدن بمثابة "الثلث الناجي" نظريا فقط, أما مايعيشه أبناؤها فيشبه إلى حد بعيد ما يعيشه الآخرون في المدن التي لم يرد ذكرها.
ثم هناك البقية. مناطق على شساعة واختلاف البراح الجغرافي المسمى مغربنا تعيش ضنك الحياة وشظفها, تقاسي يوميا لكي لا تعلن الإفلاس النهائي, وترسل الأبناء باستمرار إلى المدن الناجية لكي يأتوا من هناك بالقليل مما يساعد على العيش, لكي يجربوا حظهم, ويروا إن كان النحس الذي يعتقد الآباء أنه لازمهم, هو رهين بالبقاء في المدينة ذاتها أم أنه تميمة معلقة في العنق تتبعك حيثما رحلت وارتحلت.
لذلك وأينما وضعت رجلك في مدينة أو قرية مغربية ستسمع شعارا يردده كل أبناء تلك المدينة أو القرية هو شعار "هاد القنت ماكيعطي غير للبراني". وهو في الحقيقة شعار يعبر عن حالة التيه التي تصيب أبناء المناطق حين يقارنون بين خيرات مناطقهم وبين وضعياتهم فيها, وحين يرون بعض الناجحين (وفيهم أناس نجحوا اعتمادا على قدراتهم وهؤلاء يستحقون التنويه, لكن فيهم من نجح اعتمادا على "السيستيم" الفاسد) ويتساءلون "كيفاش دارو ليها؟"
المغرب اليوم وهو يقطع جهويا مفاصله, عليه أن يضع في اعتباره هذا الشعار, وأن يضع نصب عينيه إعادة أبناء المناطق للإيمان بالأماكن التي ولدوا فيها, وأن يكون توزيع الثروات عادلا بين الجميع, لا بين القلة التي تحكم الجميع. علينا اليوم أن ننتهي من النكتة البايخة التي تقول إن "حوت الداخلة وأعالي البحار وفوسفاط خريبكة وبقية المناطق المنجمية كياكلوه رباعة ديال الناس فكازا والرباط, والبقية كتحنزز فيهم".
غير ذللك , راه غير التخربيق والمزيد من الإقصاء لمغاربة ومغربيات كثيرين لن يصبروا بالتأكيد مزيدا من الوقت على هذا الإقصاء.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق
هذا أول عدد بين أيديكم بالحلة الجديدة للأحداث المغربية, وهي حلة ليست نهائية, لأنها تظل قابلة للتطوير هي وأبواب الجريدة التي تكتشفونها هذا العدد وبقية أعداد الأسبوع. تطوير نعتمد عليكم بشكل شبه كلي لكي تسهموا معنا فيه بملاحظاتكم, وانتقاداتكم, حتى أكثرها لذاعة لأننا نعرف أن "من يحب جيدا, يعاقب جيدا" مثلما يقول الفرنسيون, وأملنا الوحيد هو أن يصل كل الجهد الذي صنعنا به هذا الشكل والمضمون الجديدين إلى أكبر قدر ممكن من القراء في مغرب يستحق بالفعل صحافة من نوع آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق